انتهى عصر الإنسان

ظهر الإنسان على الأرض منذ سنوات طويلة تقدر بآلاف السنين. و أضاف عدة أشياء إلى الطبيعة و الأمكنة التي عاش فيها أو مر منها، كما أسهم في عدة تطورات يسرت سبل عيشه و جعلته سيد الزمكان.

و اختلفت التغيرات من فترة لأخرى، حيث الإنجازات التي حققها قديما كانت عبر فترات طويلة جدا. لكن منذ القرن الثامن عشر إلى الآن حدثت تطورات سريعة، و تسارعت مع ازدهار الاختراعات و التكنولوجيا العالية الدقة التي لا زالت تسابق الزمن و وفرت للبشرية عدة إمكانيات لم تكن متاحة من قبل.

لقد استطاع الإنسان بفكره و بحثه الدؤوب تحقيق أشياء كانت فقط في قصاصات الخيال العلمي. حيث لعبت المعاهد و الجامعات _ في الدول الرأسمالية طبعا_ دورا كبيرا في هذا التقدم. لأن التيار النيوليبرالي ينصب همه على استمرار الهيمنة الرأسمالية و على تواصل الاستهلاك بدون توقف. حيث “في عصر الآلات، قصور الاستهلاك يعد جريمة في حق المجتمع” ¹. لهذا عملت هذه المعاهد جادة على دراسة الإنسان من أجل التعرف على خباياه لكي يسهل توجيهه نحو الأهداف المرصودة. و قد تمكن العلم فعلا من دراسة و فهم آليات عمل الدماغ البشري .و لو جزئيا. لذلك سهلت السيطرة على الإنسان الذي صار أداة في يد التقنية و أصبح يستسلم لها بمحض إرادته.

ما بعد الإنسانية

لكن رغم كل هذا التطور لا زال القائمون على وضع المخططات و الاستراتيجيات تواجههم عقبة تكبح الوتيرة التي يريدون السير بها. فما هي هذه العقبة؟

لعل أبرز ما يميز الانسان أنه مخلوق عاقل يستطيع التمييز بين الخير و الشر، بين الحق و الباطل. و هذا التمييز يعد جوهر البعد القيمي و الأخلاقي و الإنساني الذي يميز بني آدم عن باقي المخلوقات. فهذه الأبعاد تعطي الإرادة للإنسان و تجعله مخلوقا حرا و مريدا و يأبى الخضوع عبر الإكراه. لذلك بلوغ المرامي يرتكز على كيفية تجاوز هذه الأبعاد.

تعتبر ما بعد الإنسانية خطوة خطيرة للقضاء على الإنسان بشكله الطبيعي.
نهاية عصر الإنسان نذير بسيطرة التقنية.

لقد شكلت هذه الرغبة جوهر أبحاث جوليان هوكسلي ( 1887 _ 1975). و هو طبيب و عالم أحياء بريطاني اهتم كثيرا بنظرية التطور التي وضعها داروين. و هذا جعله يصوغ مفهوما جديدا لم يكن معهودا من قبل. حيث قال سنة 1927 ” إن الجنس البشري يمكن – إذا أراد- أن يسمو على ذاته ليس فقط بشكل متفرق، كفرد هنا في أحد المسارات و كفرد هناك في مسار آخر، بل في طبيعته الكلية أي الطبيعة البشرية. نحن في حاجة إلى اسم جديد لهذا الاعتقاد الجديد، ربما يفي تعبير ما بعد الإنسانية بالغرض:. فالإنسان يبقى هو الإنسان، و لكنه يسمو فوق ذاته من خلال تحقيق إمكانات جديدة من الطبيعة البشرية و إليها”².

لقد أصبح مفهوم ” ما بعد الانسانية ” يشير إلى كل الخطط و الاستراتيجيات التي تسعى للتحكم بالإنسان و جعله أداة فقط. و نظرا للطابع السيميائي الذي يميز اللغة، فقد تمت صياغة مفهوم جديد لا يقل خطورة عن المفهوم السابق.: ” الذكاء الاصطناعي ” الذي صار محور التنافس بين الأقطاب الكبرى حاليا خاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية و الصين.

الذكاء الاصطناعي

فكما سعت استراتيجية “ما بعد الإنسانية” إلى تجاوز الإنسان، فكذلك خطة” الذكاء الاصطناعي” يعمل أصحابها جاهدون على تجاوز الإنسان و جعله ثانويا. و من هؤلاء “راي كورزويل*” الذي يعتبر أن التطور السريع في التقنيات سيسهل عملية التقارب بين الذكاء الاصطناعي و الذكاء البشري حيث يقول : “لن يكون هناك تمييز  بين الانسان و الآلة أو بين الواقع المادي و الافتراضي”.³

إن الطريق الذي يسير فيه العلم يهدد وجود الإنسان، حيث التطور التقني المتسارع ينتصر على البشر، و ربما سيأتي يوم يصبح فيه الكائن البشري عبدا لدى الإنسان الآلي.

انتهى عصر الإنسان، تعبير عن الخطر الذي يتربص بالإنسان.
الذكاء الاصطناعي و خطورة تعويض الإنسان.

ومن ضمن الأفكار التي يروج لها أصحاب” الذكاء الاصطناعي”. أنهم يعملون على ابتكار وسيلة لتخليد الانسان، أي أنهم يريدون تمرير أفكار الشخص و ذكرياته لإنسان آلي يحيا بها، و هكذا سيخلد فكر الشخص و تخلد ذكرياته رغم خروج روحه. لكن تواجه أصحاب استراتيجية “الذكاء الاصطناعي” معضلة تتجلى في أن الإنسان الآلي لا يستطيع الإدراك و يفتقر للوعي، و هذا يجعله عاجزا عن إدراك العالم كما أكد ذلك ميشيو كاكو في كتابه “مستقبل العقل”. 

المجتمع، الهوية، الاستقرار

لقد تحدث الروائي الانجليزي” ألدوس هكسلي” عن هذا الوضع في رواية رائعة عنونها ب” عالم جديد شجاع”. حيث المصانع تعمل جاهدة على تحقيق الاستقرار الاجتماعي عبر إنتاج رجال و نساء معياريين( متماثلين) في مجموعات موحدة تحت شعار “المجتمع، الهوية، الاستقرار”.

إن المجتمع في هذا “العالم الجديد الشجاع” يجب أن يحيا دون عواطف. لأن “العاطفة تعني الانهاك العصبي، و العاطفة و الإنهاك العصبي يعنيان عدم الاستقرار، و عدم الاستقرار يعني نهاية الحضارة”⁴ .

 إن الأفراد في ظل حكومة “العالم الجديد الشجاع” يجب أن ينشغلوا بالملذات و يتخلوا عن عواطفهم و أحاسيسهم، لأنها تستهلك الطاقة التي يجب أن يخصصوها للعمل. حيث “الحضارة الصناعية لا تقوم لها قائمة إلا بالقضاء على إنكار الذات، و بالانغماس في الملذات إلى أقصى الدرجات المسموح بها دون التعرض لأخطار صحية أو اقتصادية، و إلا توقفت العجلات عن الدوران”5.

مجتمع “عالم جديد شجاع” قائم على الاستهلاك.

فالرجال والنساء الذين تم تشكيلهم في المصانع “بالغون فقط في ساعات العمل، و رضع في ما يتعلق بالمشاعر و الرغبات”6. و هذا الوضع يجعل من جميع المشاعر جريمة لا تغتفر، لذلك يجب التخلي عن كل ما يهدر طاقة الإنسان.

وهذه المشاعر والرغبات يحلو للدولة أن تتحكم بها، حيث يقول” هكسلي” على لسان أحد شخصيات الرواية “إنك تحكم باستخدام العقل، وباستخدام رغبات الناس للسيطرة عليهم، وليس باستخدام قبضتك”7.

لقد تركزت أهم أسس الدولة في هذا العالم على الاستهلاك. حيث يقول هكسلي مترجما كلام الاوليغارشيين “نحن لا نريد للناس أن ينجذبوا إلى الأشياء القديمة،بل نريدهم أن يعجبوا بالجديد”8.

لقد تم تسخير العلم في هذا” العالم الجديد الشجاع” إلى تشييء الإنسان و جعله فارغا روحيا. لأن “الرب لا يتناسب مع الماكينات و التطبيب العلمي و السعادة الكونية. و في النهاية عليك أن تقوم بالاختيار بينهما، و قد اختارت حضارتنا الميكنة و الطب و السعادة”9

لهذا فالاعتقاد بالله و الإيمان به يعتبر عملا تافها في ظل التطور الهائل الذي يتحقق بفضل العلم.

نهاية الإنسان

إن جزءا كبيرا من الأفكار التي صاغها” هكسلي” في قالب روائي. تصدق على عالم اليوم الذي صارت فيه التقنية تستعبد الإنسان و تؤثر عليه عاطفيا و وجدانيا. حيث غابت العديد من القيم و صار التخلق تخلفا، و انقلبت الموازين و تبدلت المعايير و أصبحت الرذيلة صفة تستهوي عددا هائلا من الأفراد.

و لقد صدق روجي غارودي عندما قال.: “لقد انتقلنا باسم” علم السياسة البورجوازي”من سياسة” دون إله” إلى سياسة “دون إنسان”. مثلما انتقلنا من أبهة” موت الله” الذي نادى به نيتشه إلى الإعلان عن “تمجيد الإنسان” ثم إلى “موت الإنسان” في تكنوقراطية تافهة ذات نزعة وضعية مقنعة بقناع البنيوية”10.

تمكنت البلوتوكراسيا** من تأمين هيمنتها على التكنولوجيا، فأصبحت الصيحات لا تتوقف و دائما تتجدد. لكن الهيمنة على التكنولوجيا لم تعد كل ما يهم الأوليغارشيين، بل انتقلت رغبتهم إلى مجال البيوتكنولوجيا “التكنولوجيا الحيوية”. أي أن التقنية أصبحت تتخذ من جسم الإنسان مجالا لاشتغالها و تخص بالأساس الجهاز الجيني الذي يلعب دورا أساسيا في جسم الإنسان، عبر توجيه سلوكه و حفظ حياته من المخاطر و وقايته من الأمراض. 

و قد تحدث فرانسيس فوكوياما بشكل مستفيض عن هذه الثورة البيوتكنولوجية في كتابه ” نهاية الإنسان” و أكد أن هذه الثورة تهدد الطبيعة البشرية و تهدد كينونة الإنسان، لأنها مكنت الإنسان من أن يصبح سيد الجينات بعد أن كان عبدا لها. 

إن اللعب في الجينات سيؤثر سلبا على الوجود البشري. لأن بعض الآباء يريدون أطفالا أذكياء حتى تكون لهم حظوة كبيرة في المجتمع و حتى يتمكنوا من الالتحاق بالجامعات الراقية. مما “سيضع هذا النوع من سباق التسلح الوراثي حملا ثقيلا على من لا يرغبون_ لأسباب دينية و غيرها_ أن يغيروا أبناءهم وراثيا”11.

تجربة جون موني

كما أن هذه الثورة تريد تغيير الجندر (النوع) لكي يتسنى لها التحكم في بنية الجنس البشري. و قد أورد فوكوياما حادثة من هذا النوع في كتابه السالف الذكر، حيث إن طفلا اسمه دافيد رايمر في عملية ختان غير متقنة ترتب عنها تشوه القضيب و احتاج إلى إشراف مختص. فكان ذلك الطبيب “جون موني”، طبيب متخصص في الجنس بجامعة جون هوبكنز. حيث كان دائما يؤكد أن هوية الجندر ( النوع) ليست طبيعية و تتشكل بعد الولادة. كما كان له موقف متطرف من قضية الطبع ضد التطبع.

و قد كان لدافيد رايمر أخا آخر ذكرا ( كانا توأمين)، لذلك سهلت مقارنة سلوكه مع أخاه الذي يطابقه وراثيا. و لم يعالج الطبيب هذا المريض الجريح بل تركه ينمو و هو مخصي و أطلق عليه اسم بريندا على اعتبار أنه أنثى. لم تستوعب بريندا وضعها و أصبحت حياتها جحيما، لأنها كانت تعرف أنها ولد و ليست بنتا. و قد كانت ترفض كل هدايا الفتيات التي كانت تقدم لها في أعياد الميلاد. وبعد سن البلوغ أفلتت من قبضة الطبيب موني، وركبت قضيبا وعادت إلى سابق عهدها : دافيد رايمر.

و مع مرور الزمن اتضح أن الطبيب موني كان مخطئا عندما قال بأن هوية الجنين تتكون بعد الولادة. لكنها في الأصل تتشكل قبل الولادة بكثير و ذلك عندما يتلقى الجنين حزمة من هرمون التستوسترون تجعله ذكرا.

هذه القصة تؤكد أن تغيير الجنس أو الجندر أمر صعب و مستحيل. لأن الإنسان عنصر مركب بالغ التعقيد لا يمكن فصل جزئه النفسي و العاطفي عن تركيبته العضوية. 

و لا زالت الأبحاث و الثورات العلمية متواصلة. فبعد الثورة الجينية التي تهدف تغيير الخط الوراثي للإنسان، يتم العمل حاليا على التحكم بالإدراك من أجل توجيه البشر نحو ما يراد لهم.  و لا زال المستقبل حابلا  بالمفاجآت التي ستكون صادمة وربما مدمرة. 

لذلك سؤال هل انتهى عصر الإنسان، سؤال جدير بالدراسة والتأمل. 

_______________________

قائمة المراجع:

¹: عالم جديد شجاع، ألوس هكسلي،ترجمة مروة سامي، ص 72.

²: المستقبل ستة محركات للتغيير العالمي، آل غور، عالم المعرفة،الجزء الثاني، ترجمة د. عدنان جرجس، ص ص: 126-127.

³: المستقبل،ستة محركات للتغيير العالمي، آل غور، عالم المعرفة،مرجع سابق، ص: 127.

⁴:عالم جديد شجاع،ألدوس هكسلي، ص:314.315. 

5:نفسه: ص 314.

6: نفسه: ص 125.

7: نفسه: ص 68.

8: نفسه: ص 289. 

9: نفسه: ص311.

10:حضارة الموجة الثالثة، ألفين توفلر، ترجمة عصام الشيخ قاسم، ص: 7.

11:نهاية الإنسان، عواقب الثورة البيوتكنولوجية، فرانسيس فوكوياما، ترجمة أحمد مستجير، ص: 151.

*راي كورزويل: ولد في نيو يورك سنة 1948 وهو مخترع وعالم مستقبليات يهتم بالذكاء الاصطناعي ووضع أبز أفكاره في رواية ” عصر الآلات الروحية”.

**البلوتوكراسيا plutocracy حكم الأثرياء، ويعني أيضا حكومة يسيطر عليها الأغنياء.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *