دورات التنمية الذاتية… تسويق الوهم

شهدت السنوات الأخيرة بروز ما بات يعرف بالتنمية الذاتية، وهي عبارة عن برامج وندوات تقام بشكل دوري تقدم لفائدة أشخاص يعانون من ضعف على مستوى الشخصية وغير راضين عن ذواتهم في أغلب الأحيان، وقد سمحت هذه البرامج لعدة أشخاص باستغلال الوضع بحيث اعتبروا أنفسهم مدربين ورواد التغيير وخبراء في التنمية الذاتية. وانطلقت سلسلة الندوات والدورات وأصبح الناس من كل حدب ينسلون، وصاروا يتقاطرون على هذه المراكز معتقدين أن هذه الخطوة بداية لإنهاء جميع الصعوبات والتغلب على العراقيل التي تواجههم، وأن التغيير فقط فكرة يجب الإيمان بها. لكن هيهات هيهات، فالتعامل مع الإنسان كذات وكيان أمر صعب لأن ما ترسب خلال سنين وسنين لا يمكن محوه بين ندوة وأخرى. كما أن هؤلاء المدربين يعتمدون على أفكار وفلسفات لمفكرين بلغوا من الرقي الروحي مراتب عليا، مثل كونفوشيوس، لاو تزو، جلال الدين الرومي، بوذا.. ومحاولة إسقاط افكار هؤلاء على اناس يتخبطون مشاكل بشتى أنواعها أمر عسير إدراكه. 

خرافة الإيجابية

فهولاء الخبراء (مع التحفظ على لفظ خبراء) يعملون جاهدين على إقناع الأشخاص الضعفاء بضرورة العمل على تجاوز الألم وتحقيق المتعة. والمتعة قيمة في أغلب الأحيان قيمة مزيفة، لأنها لحظية مؤقتة وليست دائمة. لذلك، فالغوص في المتعة هو غوص في متاهة.

كما يتم الترويج لفكرة أن المتعة من مسببات السعادة، لكنها ليست كذلك. لأن السعادة قيمة ثابتة والثابت لا يقوم على المتحول والزائف. فالسعادة لا تتحقق بالماديات دائما، وذلك يبدو من خلال التعب والجهد الذي يصرفه الإنسان في تحقيق بعض المتطلبات مثل اقتناء سيارة، بناء منزل. وفي هذه الحالة يجهز الإنسان على نفسه معتقدا أنه يصنع معروفا لها. لذلك ليست المادة دائما سببا للسعادة، بل أحيانا التعاسة نفسها.

ومحاولة تكريس الإيجابي في الحياة على أساس أن ذلك أيضا من مسببات السعادة، ظلم وحيف في حق الذات. لأن الإيجابية تحجزنا عن إدراك مشاكلنا والتعامل معها. وهي تحرمنا أيضا ميزة التعلم من هذه المشاكل، إذ لا يمكن التحسن على مستوى الشخصية بدون إدراك فعلي للأخطاء والهفوات. 

ويعتبر مارك مانسون من أوائل المنتقدين لهذه البرامج التي تكرس مسألة التفكير الإيجابي، حيث تناول ذلك في كتابه الأخير “فن اللامبالاة” بشكل مستفيض وبين عيوب هذا التيار من عدة جوانب، ومن الأمور التي ركز عليها تتجلى في مسألة السعادة اللحظية، حيث يقول “يعلمك كثير من مرشدي “المساعدة الذاتية” أشكالا جديدة من الإنكار ويحقنونك بمختلف أنواع التمرينات التي تمنحك إحساسا طيبا على المدى القصير، لكنهم يتجاهلون الأسباب العميقة. تذكر أن ما من أحد سعيد حقا يجد نفسه في حاجة إلى الوقوف أمام المرآة وإخبار نفسه أنه سعيد”. 

أصبحت التنمية الذاتية مسلسلا لا ينتهي و لا يكف عن بيع الوهم للمنخرطين في الدورات.
غلاف كتاب “فن اللامبالاة”.

ومن القيم الأساسية التي يجب على الإنسان تعزيزها تتجلى في تحمل المسؤولية في كل ما يقع وكل ما يحدث، لأن لوم الآخرين لن يحل تلك المشاكل، لذلك قبول المسؤولية في المشاكل التي تقع أولى الطرق للوصول إلى الحل.

التجارب السلبية ليست دائما سلبية

كما أن تكريس الإيجابية في الحياة يعتبر الحجر الأساس في دورات التنمية الذاتية، حيث يتم إقناع المستفيدين بضرورة التخلي عن كل ما هو سلبي؛ الأشخاص السلبيين، الأفكار السلبية، وكأن الحياة طبق نختار منه ما نريد، لذلك والحال هذه، تصبح الإيجابية المفرطة في أحايين كثيرة سلبية، لأنها تجعل من الإنسان خاضعا لقيم مزيفة، كأن يكون معيار نجاحه ما يقول عنه الآخرون، وتجعله منغمسا في شعور ليس مسؤولا عنه، بل فقط يترجم ما يروجه عنه الأصدقاء والزملاء.

إن هذه الوضعية ستفقده قيمته الشخصية وتجعله يستيقظ على واقع مزيف بمجرد انتهاء تلك الحظوة، وهذه النقطة بالأساس تناولها مانسون في كتابه السالف الذكر، ” نحن نتمزق من الداخل لأن هنالك ذلك الشيء الخاطئ من الهراء الذي يأتينا تحت عنوان ” كيف تكون سعيدا”… ما لا يدركه أحد في ما يتعلق بهذا الكلام الفارغ كله : إن الرغبة في قبول مزيد من التجارب الإيجابية تجربة سلبية في حد ذاتها.

والمفارقة أن قبول المرء تجاربه السلبية تجربة إيجابية في حد ذاتها… الرغبة في التجارب الإيجابية تجربة سلبية، وقبول التجارب السلبية تجربة إيجابية. هذا ما كان الفيلسوف آلان وات يشير إليه باسم ” القانون التراجعي” ويضيف في نفس السياق، ” كل ما له قيمة في الحياة يجري كسبه من خلال التجارب السلبية التي ترافقه. وأي محاولة للهروب من السلبي، أو لتجنبه، أو لإسكاته، أو لقمعه، لن يكون لها إلا أثر عكسي. تجنب المعاناة ليس إلا شكلا من المعاناة نفسها، وتجنب الصراع صراع في حد ذاته، وإنكار الفشل فشل بدوره”.

وفي أحايين كثيرة يبحث الإنسان عن الصواب، وكيف يكون على حق، ويتجاهل الخطأ، لكن في حقيقة الأمر، البحث عن الخطأ وخبايا الخطأ يشكل أساس التغيير، لأن الخطأ يميط اللثام عن كينونتنا كإنسان ونسبيتنا كبشر، والغوص في أعماق اللاصواب هو ما يقودنا للصواب.

أهمية الفشل في النجاح

والوقوف على الخطأ والتركيز على الهفوات يفتح الباب على إصلاحه، وبقبول الخطأ والتعامل معه يحدث التطور ويطرأ التغيير. كما أن الفشل الذي يعمل هؤلاء المنومون على تجاوزه، ليعتبر عنصرا أساسيا في النجاح. حيث الفشل يفتح باب المحاولات ويزكي فكرة البحث عن الجديد، لأن النجاح لا يحدث فجأة ويحتاج تعبا كبيرا. ولا يمكن للنجاح أن يحدث بين عشية وضحاها. وقد صدق المؤرخ الانجليزي أرنولد توينبي عندما قال ” أكثر شيء فشلا هو النجاح”. لأنه درس الحضارات ووضع نظرية عرفت ب “التحدي والاستجابة”. بحيث أكد أن على قدر التحدي تكون الاستجابة، وعلى قدر الاستجابة يكون النجاح.

ويضيف مارك مانسون في نفس السياق “لا يمكننا أن نكون ناجحين إلا في الأشياء التي نحن مستعدون للفشل فيها. وإذا كنا غير مستعدين للفشل فإننا غير مستعدين للنجاح”. 

وتركز هذه الدورات التكوينية على أهمية الكسب ودوره في تحقيق السعادة. لكن التركيز على تحقيق أهداف مادية مثلا اقتناء سيارة أو بيت لن يحقق السعادة. لأن ذلك الإحساس بقيمة السعادة سيذبل بمجرد تحقيق ذلك الهدف. وهذه تبقى قيم استهلاكية معرضة للزوال، لكن ربط السعادة بقيم ثابتة مثل الصدق والوفاء بجعل من السعادة إحساس دائم.

كان بابلو بيكاسو ذات مساء جالسا في مقهى، ولحظة تناوله قهوته، أخرج منديلا ورسم عليه بعض التربيعات وعندما انتهى طوى المنديل وهمَّ بوضعه في جيبه. وفي تلك اللحظة قالت له امراة كانت جالسة بجانبه هل يمكنك منحي ذلك المنديل، فقال لها مقابل ألفي دولار. ففزعت المرأة من جوابه. 

ف “بيكاسو” كان واثقا من نفسه ومن فنه. لأنه كان صادقا مع نفسه طيلة حياته الفنية ولم يكن يرسم لكي ينال ما يرسم إعجاب الناس بل كان بالرسم يحقق ذاته. ولم يربط عمله بما هو مادي، لذلك استمر في الرسم حتى أواخر عمره.

بوذا… من البذخ إلى الألم

يروى في بعض القصص أن قبل حوالي 2500 سنة في سفوح جبال همالايا، كان ملك يوشك أن يحظى بأمير. وقرر أن يوفر له كل احتياجاته وأمر خدمه بأن لا يتركوا الأمير ينقصه أي شيء. وكبر الأمير، ورغم هذه الرفاهية في العيش، لم يكن يشعر بمعنى السعادة ولا بأهميتها، والحياة نفسها تبدو بدون معنى. فقرر الخروج من القصر، وعندما خرج بدأ يلاحظ حياة الأشخاص بمختلف مشاربها: التشرد، التعب، الألم، المعاناة. وعاد إلى القصر حيث الرفاهية وكل شيء متوفر، فلم يتحقق ما كان يصبو إليه؛ أن يدرك قيمة الحياة.

وحينها قرر الخروج من القصر وأن لا يعود إليه أبدا. وبدأ يعيش المعاناة التي سبق له أن لاحظها، الجوع، العطش، التشرد، الازدراء. واستمر على ذلك حتى نضج فكره وقويت تجاربه، فوصل إلى فكرة أن الحياة بدون ألم وبدون معاناة لا يمكن أن تُدرك قيمتها. وأن الخسارة أمر وارد بقوة في الحياة ويجب تقبلها دون محاولة نفيها. وتقول الحكاية أن هذا لم يكن إلا بوذا، الذي خلف حكما عظيمة تؤشر على عظم المعاناة التي صقلت شخصه. 

تمثال بوذا

وقد ركز مانسون بشكل كبير على هذه النقطة بقوله “من هذا المنظور، فإن القسم الأكبر من التغيرات الجذرية يحدث لدينا في نهاية أسوأ لحظات حياتنا. وفقط عندما نشعر بالألم الشديد نصير مستعدين للنظر إلى قيمنا والتساؤل عن السبب الذي يجعلها تبدو كأنها تخذلنا. إننا في حاجة إلى نوع من الأزمات الوجودية حتى ننظر نظرة موضوعية إلى طريقة استخلاصنا مغزى حياتنا. وفي تلك اللحظة نبدأ التفكير في تغيير مسارنا”. 

ضرورة الالتزام في التغيير

بالإضافة إلى كل ما سبق، تنبثق فكرة أخرى في تلك الدورات تتجلى في أن تحقيق الحرية يرتكز على تجاوز الألم و المعاناة، والتخلص من القيود. كما أن كثيرا من البشر يعتقدون بأن العيش بحرية مطلقة يحقق لهم الحرية، ويجلب لهم السعادة. لذلك تجدهم يعيشون حياة خالية من القيود ويعملون على تلبية جميع الرغبات ويطلقون العنان للنزوات، على اعتبار أن ذلك يمكنهم من عيش حياة ذات معنى. لكن تلبية نفس الرغبة لمرات عديدة ومتعددة يفقدها بريق اللذة، وهنا تصبح المتعة قيدا يأسر الإنسان وتصبح الحرية عبودية. لذلك ما يحقق الحرية هو الالتزام، لأن حسب مانسون، “الالتزام يمنحك حرية لأنه يكفك عن التشتت والتلهي بما هو تافه وغير هام. ويمنحك الالتزام حرية لأنه يجمع انتباهك وتركيزك ويصبهما في الاتجاه الأكثر فعالية في جعلك سعيدا معافى”.

الالتزام يغير السلوك تدريجيا، و يحقق النجاح.

لهذا، فهؤلاء الأشخاص الذين يقيمون الدورات التكوينية ويعملون جاهدين على إنهاء معاناة الأشخاص الضعفاء، فهم أنفسهم صلب المعاناة. لأنهم يستغلون وضع اناس يمرون من ظروف نفسية صعبة، وعوض إخراجهم من واقعهم الأليم فهم يكسرون ذلك الألم بأفكار أشبه ما تكون بالطلاسم. أفكار يستعصي فهمها أحيانا ويصعب تنزيلها على أرض الواقع. وهذا لعمري أقرب من عالم الشعوذة والدجل، لذلك، فهؤلاء المدربون لا يختلفون كثيرا عن المشعوذين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.

Loading

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *