إمبراطورية الخزر

شكل الخزر على مر التاريخ غموضا كبيرا بالنسبة للدارسين و المؤخرين نظرا لقلة المصادر و الوثائق التي تتناول نشأتهم و تطورهم. حيث تشير أغلب الدراسات إلى أن الخزر جنس من الأتراك استوطن آسيا الصغرى. و منذ القرن الخامس الميلادي توجهوا نحو الغرب و كونوا إمبراطورية شاسعة نافست أقوى الإمبراطوريات. 

آرثر كيستلر

و من ضمن المؤرخين الذين تناولوا تاريخ الخزر بالدراسة نجد آرثر كيستلر. Arthur koestler الذي خصص لذلك كتابا عنونه ب “القبيلة الثالثة عشر”. و هو مؤرخ و مفكر كبير من أصل يهودي، ازداد في بودابست سنة 1905 من أب مجري و أم نمساوية. انخرط في حركة سياسية كانت تنادي بهجرة اليهود إلى فسلطين خاصة بعد الحرب العالمية الأولى. كما انتقل إلى فلسطين لكن لم يقم فيها طويلا و عاد إلى برلين، و هناك تم اختياره مراسلا صحفيا.

و تأثر بأفكار اليسار من خلال جولة في روسيا، حيث التقى عدة زعماء يساريين من بينهم نيقولا بوخارين. بعد أن اكتشف زيف الأفكار اليسارية التي تشبع بها، و بعد أن شاهد الإعدامات التي أقامها ستالين في حق معارضيه استقال من الحزب الشيوعي، و اختار الاستقرار في بريطانيا. و كتب رواية”ظلام في الظهيرة” و هي رواية تؤرخ للظروف النفسية و الاجتماعية التي عاشها في تلك الفترة و عايشها كل اليساريين الذين صدمتهم الإعدامات الستالينية. و واصل حياته الفكرية و العلمية إلى أن وافته المنية في الثالث من مارس سنة 1983. 

آرثر كيستلر، كاشف حقيقة إمبراطورية الخزر
آرثر كيستلر، كاشف حقيقة إمبراطورية الخزر.

لقد كرس آرثر كيستلر جزءا كبيرا من وقته و أبحاثه للتنقيب عن المصادر التي اهتمت بدراسة قضية الخزر. فعرج على المصادر البيزنطية و العربية خلال العصور الوسطى. كما أنه لم يغفل المصادر الروسية و كذلك المراجع الحديثة التي أثرت موضوع “تاريخ الخزر” بالبحث و التنقيب. 

و بعد دراسته لكل هذه المصادر، تبين لآرثر كيستلر أن الخزر شعب استقر في منطقة القوقاز بين البحر الأسود وبحر قزوين. و اتخذوا من “أتل” عاصمة للدولة و هي مدينة تقع على نهر الفولجا عند مصبه في “بحر قزوين”.

إمبراطورية قوية

و استطاع الخزر تكوين “إمبراطورية قوية” في أوربا الشرقية بين القرنين السابع و العاشر الميلاديين. حيث نافست أقوى الإمبراطوريات آنذاك؛ الإسلامية والبيزنطية.

و قد كان الخزر وثنيون لكن بعد تكوينهم للإمبراطورية استطاعوا تبني اليهودية دينا لهم، و هو قرار أثار استغراب الدارسين، لماذا اليهودية بالضبط؟

لقد أثار كيستلر هذه الإشكالية في كتابه و أكد أن “الخاقان”(لقب حاكم الخزر) اعتنق اليهودية سنة 740 ميلادية هو و حاشيته و كان هذا القرار غريبا على الجميع. إذ رغم المحاولات البيزنطية التبشيرية و رغم الاحتكاك بالمسلمين، و رغم الاضطهاد الذي كان عليه اليهود آنذاك لم يتأثر ملك الخزر بكل هذا و اتخذ قرارا شكل حيرة كبيرة للمؤرخين و الدارسين في ما بعد، و قرر أن يصبح يهوديا. و علق كيستلر على هذا القرار و قال بأنه كان نابعا من الرغبة في اتخاذ دين مغاير للإمبراطوريتين المجاورتين حتى لا يخضع لهما بأي شكل من الأشكال. 

و قد لعبت “إمبراطورية الخزر”_نظرا لقوتها_ دورا أساسيا في صد الهجومات الإسلامية من الشرق. لأنهم وقفوا سدا منيعا في جبال القوقاز. و منعوا توغل المسلمين في أوربا الشرقية، و هذا ما جعلهم يخلقون علاقة قوية مع البيزنطيين.

بعد تكوين الخزر” لإمبراطورية قوية” مستقلة عن هيمنة القوى المجاورة، هاجر إليها اليهود من “آسيا الصغرى” بعد أن فتحها المسلمون، و من الدولة البيزنطية هروبا من الاضطهاد الذي مورس عليهم هناك. عندما قدموا_أي اليهود_ بلاد الخزز جلبوا معهم ثقافتهم و معرفة كبيرة في مجال الاقتصاد خاصة التجارة و الفلاحة. فساهموا في إغناء الحياة الثقافية و الاقتصادية في بلاد “الخاقان”. و نظرا لثقافة اليهود الواسعة، انخرط جزء كبير منهم في الحياة السياسية و حصلوا على مناصب كبيرة في الدولة، و تشريفا لهم اتخذ الملك “اللغة العبرية” لغة رسمية للبلاد*.

إمبراطورية الخزر خلال القرن العاشر الميلادي.

تحالفات الخزر

إن قوة “إمبراطورية الخزر” جعلتها تتحالف مع “الإمبراطورية البيزنطية” نظرا لأن “الدولة الإسلامية” كانت تشكل عدوا مشتركا. و بفعل النفوذ الذي أصبحت تتمتع به، صارت تتدخل في الشؤون الداخلية للإمبراطورية البيزنطية. حيث أشار كيستلر إلى هذه النقطة في كتابه السالف الذكر. و قال بأن ملك الخزر” بازير” عقد تحالفا مع جستنيان ( إمبراطور بيزنطي تم خلعه و كان يبحث عن جميع السبل لاسترداد عرشه) مستغلا هذه الظرفية للتدخل في شؤون الإمبراطورية. و زوجه أخته “تيودورا” و دعمه لكي يسترد عرشه. لكن عندما علم الإمبراطور الجديد “تيبرس” بالأمر، عرض على خاقان الخزر بازير عرضا سخيا من الذهب مقابل تسليم جستنيان حيا أو ميتا. و قد وافق الخاقان على العرض، و أرسل اثنين من رجاله الأشداء لقتل جستنيان. لكن علمت زوجته بالأمر و أخبرته فنصب كمينا للرجلين و قتلهما.

و توجه بعد ذلك إلى مصب نهر الدانوب حيث كانت أكبر القبائل البلغارية، و عقد تحالفا جديدا مع ملكها “تريبوليس”، من أجل استرجاع عرشه، و قد تمكن من تحقيق ذلك و اعتلى العرش سنة 704 إلى غاية 711. و مباشرة بعد توليه العرش قاد حملة انتقامية واسعة ضد الخزر. لكن انقلاب قائد جيشه ضده جعل ملك الخزر يتحالف مع قائد الجيش و تم تنصيبه إمبراطورا و تم القضاء على جستنيان. هذه الأحداث تبين مدى قوة الخزر، و قدرتهم على اختراق الإمبراطورية البيزنطية و تغيير مجريات الحياة السياسية فيها.

إن القوة و النفوذ اللذين تمتعت بهما ” إمبراطورية الخزر”، جعلا منها كيانا سياسيا و اقتصاديا قويا نافس أقوى الإمبراطوريات آنذاك. و قد بلغت هذا المجد خلال القرنين السابع و الثامن الميلاديين. لكن مع مطلع القرن التاسع الميلادي بدأت قوتها تضمحل بفعل الهجومات الروسية من الشمال. 

هزيمة الخزر

و قد اضطرت روسيا لشن هجوم على الخزر نظرا للممارسات التي كانوا يرتكبونها في حق المواطنين الروس، من اختطاف للأطفال. (كان يتم ذبح الأطفال و هم صغار و يتم شرب دمهم من أجل إنجاح قداس التقرب لإبليس. لا زال هذا الأمر قائما حتى اليوم) و اعتداء على القوافل التجارية. 

إن بروز الروس كقوة جديدة غير خارطة التحالفات في المنطقة. لأن البيزنطيين الذين كانوا حلفاء الخزر انقلبوا عليهم و تحالفوا مع “الإمبراطورية الروسية”. و قد زاد الطين بلة تمرد قبائل البلغار غرب البحر الأسود. حيث تحالفوا مع البيزنطيين لأنهم ضاقوا ذرعا بشراسة الممارسات الخزرية بفعل تشددهم في جباية الضرائب.

إن هذه التحالفات التي وحدت هجوماتها، جعلت من الخزر ينهزمون و يندحرون سنة 965 ميلادية. حيث أكد كيستلر أن هزيمتهم هذه أفقدتهم مناطق عديدة خاصة مناطق غرب البحر الأسود. لكن بقيت دولتهم إلى حدود منتصف القرن الثالث عشر الميلادي حيث قضى عليهم المغول بقيادة “جنكيز خان” حسب ما أكد آرثر كيستلر.

عندما اندحرت دولة الخزر اضطر يهود الخزر إلى التوجه نحو دول أوربا الشرقية و الوسطى، خاصة بولندا و المجر. و نظرا لخبرتهم في التجارة و الإدارة اندمجوا في مجتمعات الدول التي انتقلوا إليها. مثلا في بولندا حققوا مكاسب كبيرة. و احتلوا مناصب راقية في الدولة جعلتهم يوجهون سياستها حسب ما يخدم مصالحهم كما أكد كيستلر دائما.

لقد لجأ الكثير من هؤلاء “الأشكيناز” إلى التزوير قصد دفع الشبهة عنهم، حيث وضعوا هويات جديدة تثبت أنهم يهودا غربيين. و من هؤلاء. شخص لجأ لألمانيا و أنشأ محلا للصيرفة و وضع “درعا أحمراً” كشعار للمحل و أطلق على نفسه “باور”. Bauer.

و هذا الدرع الأحمر roth shield أصبح لقب هذه العائلة التي أصبحت من أكثر العائلات قوة و نفوذا في العالم.

مؤسس عائلة روثشيلد و أبناؤه.

يهود الأشكيناز

إن يهود الخزر الذين اندمجوا في أوربا. و رغبة منهم في التوغل في الدول الأوربية _الوسطى و الغربية_جعل حكامها يتخذون مواقف متشددة في حقهم. حيث تم طردهم من عدة دول مثل فرنسا و بريطانيا كما بين “ويليام كار” في كتابه “أحجار على رقعة الشطرنج”.

فيهود الخزر الذين اعتنقوا “الدين اليهودي” أصبحوا يعرفون ب”اليهود الشرقيين” أو “الأشكيناز” كما يتحدث عنهم المؤرخون. و قد أشار كيستلر إلى أن ” الأشكيناز” يختلفون عن “السفارديم” (اليهود الغربيين) من حيث شكل الرأس. فالسفارديم ذو رؤوس طويلة بينما الأشكناز رؤوسهم عريضة.

و هذا الاختلاف يظهر في إسرائيل و بين يهود العالم حيث “إن الذين يزعمون أن اليهود جميعا من سلالة إسرائيل. (يعقوب عليه السلام) قلما يقفون لحظة واحدة لكي يدركوا أن هذا الوهم لو كان صحيحا لكان اليهود جميعا في أنحاء العالم متشابهين في السحنة و المنظر و التقاطيع، و لو نظرنا إلى اليهود في مختلف أقطار العالم اليوم لوجدنا بينهم الشقر ذوي العيون الزرقاء و الشعر الأصفر. و رأينا بينهم السمر ذوي الشعر المجعد في هضبة الحبشة و الصفر المغول في الصين، و رأينا بينهم الطوال القامة و القصار و ذوي الرؤوس الطويلة و العريضة، و يوشك ألا يكون هناك اختلافات بين السلالات البشرية أكبر مما تجده بين الجماعات اليهودية في مختلف القارات، و ليس مما يقبله العقل أن تكون هذه الطوائف كلها من سلالة جنسية واحدة”.1

و عند العودة إلى” القرآن الكريم” نجده يتحدث عن اثنتا عشرة فرقة من اليهود الذين بُعث منهم موسى عليه السلام لكي يخلصهم من بطش فرعون. لكن الآن كل المؤرخين يذكرون أن اليهود يتشكلون من ثلاثة عشر فرقة و تتكون الفرقة الأخيرة من” يهود الخزر”.

قبيلة الخزر و الصهيونية

إن هذه الفرقة التي أضيفت إلى الفرق الأخرى قد سيطرت على مقاليد السياسة في أوربا منذ القرن الثامن عشر، و جعلت من “قضية اليهود” و”جمع شتاتهم” صلب استراتيجيتهم التي يعملون جاهدين على إنجاحها. و قد تم تفعيل هذه الاستراتيجية عبر خلق “الحركة الصهيونية” التي اغتصبت أرض فلسطين بناءً على نبوءة مزيفة و شردت شعبا بأكمله.

لا زالت الأبحاث جارية في التنقيب عن كل ما يدعم فكرة أن “الخزر ” ليسوا من سلالة يعقوب و إبراهيم عليهما السلام. حيث أشارت دراسات الباحث الروسي “دمتري فاسيسلف” الأركيولوجية التي أجريت في عاصمة الخزر”أتيل”. أن الخزر ليسوا يهودا أصليين. حيث إن 97,5 ٪ منهم تختلف شفرتهم الوراثية تماما عن اليهود الشرقيين و لا صلة لهم بالساميين و بأرض فلسطين. على النقيض من ذلك. فإن 80 ٪ من الفلسطينيين تعود شفرتهم الوراثية للكنعانيين و هم الساميون فعلا و ليس اليهود المعتدين. و هذا يجعلهم متطفلين على أرض فلسطين التي جعلوا منها أرض الميعاد ظلما وزورا. 

_________________________

¹: القبيلة الثالثة عشر، آرثر كيستلر، ترجمة أحمد نجيب هاشم، ص: 12. قول أورده مترجم الكتاب في المقدمة لمحمد عوض محمد.

* اليديش: لغة الخزر تمزج بين العبرية و الألمانية.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *