ما بعد النسوية

تحدثت في المقال السابق عن الخلفية التاريخية للثورة الجنسية و الأفكار التي انبنت عليها خلال الستينيات و السبعينيات، و قد ترتبت عنها عدة تطورات كان أبرزها “الحركة النسوية” التي عاثت فسادا في المجتمع حتى حق لنا الحديث عن ما بعد النسوية، كإشارة لما خلفته من آثار سلبية على المرأة و الرجل معا.

روكفيلر صانع النسوية

عمل آرون روسو في الحقل السياسي و الدبلوماسي، كما كان منتجا لعدة أفلام وثائقية أهمها ” أمريكا: الحرية للفاشية” الذي لقي إقبالا كبيرا بفعل تناوله قضايا متعلقة بمجيء النظام العالمي الجديد، و بفعل قربه من دوائر القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، أجرى معه الصحفي الأمريكي ” أليكس جونز” حوارً مصورا سنة 2007، كشف فيه العديد من النقط من أهمها، ظهور “حركة النسوية” التي اعترف “جون روكفيلر” بدعمه لها منذ بدايتها في ستينيات القرن العشرين، و قد كان الهدف من تلك الحركة في بدايتها ينحصر في نقطتين:
الأولى: إخراج المرأة للعمل حتى تدفع الضرائب مثلها مثل الرجل.
الثانية: تولي الدولة تربية الأطفال.


في ما يخص النقطة الأولى، فقد لاحظ أرباب الشركات الرأسمالية أن استحواذ الرجال فقط على مناصب الشغل يقلل من الأموال التي تحصل عليها الدولة، لأن الضرائب كانت تدفع فقط من طرف الرجال بينما النساء لا يعملن و لا يدفعن الضرائب، لذلك، تم تشجيع عدة ناشطات اجتماعيات اللائي روجن للثورة الجنسية. الثورة التي أقنعت المرأة أنها ليست أقل كفاءة من الرجل و يجب أن تعمل لكي تحقق استقلالها المالي، و هذا كان بدافع مالي صرف لكي تدفع الضرائب مثل الرجل. و اتضح هذا الهدف حينذاك، لكن استمرت الناشطات في الدعوة لتحرير الأنثى و إقناعها بأن الاستقلال أهم من كل شيء.
لكن هذه الدعوة كانت مغلفة بالخداع، ف”لم يسبق للمرأة أن كانت مسحوقة و منهارة و مستعمرة و خامدة مثلما هي عليه الآن، و يمثل عصرنا أكثر العمليات دناءة في تاريخ المرأة، فالمظاهر خداعة، ذلك أن الفخ مموه على نحو يثير الإعجاب”¹.

وهم الحرية


فالمرأة سعدت كثيرا بتلك الدعوات و فرحت بتلك الشعارات التي تصاغ على نحو يثير الدهشة. شعارات تنمق الكلمات و تخدر الأفكار، لكنها لم تدرك أن ذلك كان بغرض استعبادها.” فلم يسبق لها أن كانت بمثل ما هي عليه الآن من العبودية في عالم ألصقت نفسها به باسم ضرب بديل للحرية التي يبدو وميضها، و ذلك على وجه الضبط كما لو أن قادة العالم التكنولوجي يقولون لأنفسهم: هل استعبدنا النساء دائما؟ إننا في الحالة الراهنة نمسكهن فقط. إنهن يعملن لدينا و من أجلنا و يهدمن أنفسهن بواسطتنا، و يصبحن أنصاف ذكور، أمر ممتاز! فنحن نبقى ذكورا على نحو كامل و نحتفظ بالهيمنة عليهن. ذلك أن العمل على شاكلة الذكر ليس إلا ضربا من ظاهر الحرية، و ليس هذا مخرجا إنما هو باب جهنم”².

نسوية سعيدة بترديد الشعارات.


لقد ساهم هذا الطريق الذي سارت فيه المرأة و خضعت لأقوال الموجهين في خلق شرخ اجتماعي بينها و بين بنات جنسها. حيث” يشعر كثير من النساء أن عملا خارجيا يمكن، مهما كان وضيعا و لسن بحاجة إليه في الغالب، أن يسوغ وجودهن. بل ثمة ما هو أكثر أيضا، ثمة عدد من النساء اللواتي خضعن لقانون العمل الخارجي، يحتقرن اللواتي يؤثرن البقاء في بيوتهن”³.


و بعض النسوة اللائي خرجن للعمل قيدن لأنفسهم طريقا اتبعنه لكن لم يكن عن قناعة منهن و فقدن على إثر ذلك بوصلتهن. ذلك” أن اللواتي يبحثن عن هويتهن من خلال مهنة من المهن، لن يجدنها أبدا. ذلك أن الجنسين، شئنا أم أبينا، موجودان دائما أحدهما بواسطة الآخر، و لن تحصل المرأة على وضعها الأساسي إلا بواسطة الرجل. و المقابل صحيح أيضا كل الصحة. فالمرأة التي لا تحب و ليست محبوبة تظل “خامدة” و عابرة مهما كانت فاعليتها، و تبقى لا متمايزة و غير بارزة، ميتة إذا صح التعبير”.⁴

ليس الذكر كالأنثى


فالانغماس في طريق النسوية أقنعها أن العمل و المال و الاستقلالية أقصى ما تحلم به المرأة، و أن الرجل عدو لها و لا يستحق منها أي شيء، بل صارت تتوق لكي تصبح رجلا، و هذا يتنافى مع الطبيعة البشرية و الفطرة البيولوجية حيث الذكر رجل و المرأة أنثى. فالأبحاث العلمية أكدت ” أن مخ الأطفال ليس صفحة بيضاء تخط فيها البرامج التي نريدها ليتصرف الطفل كذكر أو كأنثى. إن الأطفال يولدون و قد تجنست عقولهم على هيئة معينة ( مخ/ عقل ذكوري أو مخ/عقل أنثوي). أي أن الطفل يولد بمخ ذي هوية جنسية معينة. مخ تم تشكيله داخل الرحم بعيدا عن تلاعب المهندسين الاجتماعيين الذين ينتظرونهم خارج الرحم. أما دور التنشئة فهو دفع العقول في الاتجاه الجنسي الذي تم تحديده مسبقا”⁵.


فالكل يعلم أن الذكر و الأنثى يختلفان من الناحية البيولوجية و النفسية، لكن التنشئة الاجتماعية و البرمجة المصاحبة لها تؤثر بشكل كبير على طبيعة كل جنس. و لذلك أعود إلى النقطة الثانية السالفة الذكر المتعلقة بتولي الدولة تربية الأطفال. فالطفل الذي يكبر بعيدا عن أبويه لا تتشكل شخصيته بالشكل الذي يريدانه، فالقدوة تغيب عنه، و تصبح أقسام التعليم الأولي و أقسام المدرسة هي التي تشكل شخصية الطفل، خاصة في ظل عمل المرأة اليومي أو عدم تحمل مسؤولية التربية. و في الفترة الراهنة أصبحنا نرى تغيرا كبيرا في سلوك الأطفال و شخصيتهم. فالبعض من الذكور صاروا يميلون لخصائص الإناث. وعددا كبيرا من الإناث فقدن أنوثتهن و أصبحن ذكورا في هيأة إناث. و هذا الدفع يروم تغيير بنية المجتمع الاعتيادية و إدخال سلوكات جديدة لم تكن معهودة من قبل. وهذا ما صار يصطلح عليه ” ما بعد النوع”.

نمذجة المرأة


والمسيرة لم و لن تتوقف هنا، فالمدارس خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الأوربية أصبحت تُحَدِّث الأطفال عن التوجه الجنسي و تشجع على المثلية الجنسية و تعتبرها شيئا طبيعيا. حتى الألعاب و الرسوم المتحركة الخاصة بالأطفال صارت تتبنى شعارات المثلية و تدعو للتطبيع معها. و هذا يهدد الإنسان بصفة عامة لأن تغيير خصائص النوع يهدد النوع نفسه.
و في ظل الانتصار للأنثى، صارت مناصب الشغل من نصيبهن و يحظين بأفضلية كبيرة. وهذا يسير مع مخطط النخبة الرامي إلى تأنيث المجتمع و إفراغه من الرجال. لأن المرأة في أغلب الأحيان تقبل بالعمل تحت جميع الظروف ولا يهمها النضال أو الانتصار للحق. وهذا العمل كان من نصيب الرجل لكن للأسف حتى الرجولة أصبحت في عداد المفقودين أو المبحوث عنهم.
والحضارات القديمة خاصة بلاد الرافدين قامت على الأنثى التي كانت تعبد و كانت تشرف على المعابد. و هذا عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: ” إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَ إِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا” ( سورة النساء 117).
والآن بطريقة أخرى يراد للمرأة أن تصبح صلب المجتمع. يراد لها الاقتناع بأنها ليست في حاجة للرجل، قصد ضرب الأسرة في العمق و إنهاء عهد الزواج إن استطاعوا ذلك.
فالأنثى أصبحت طريقا سهلا لتمرير المخططات و تفعيل الأجندات الرامية لتشويه الطبيعة البشرية. لكن حتى و إن كثر عدد المنساقات فلن تنعدم المتيقظات.
فأليس روسي الخبيرة الأمريكية في علم الاجتماع التي كانت في بداية مسيرتها العلمية تتبنى أفكار الثورة الجنسية، انقلبت عليها بعد أن عرفت حقيقتها. و أيضا حينما خَبِرَت “النسوية”. و لهذا حذرت “من ينكرون الفروق الفطرية بين تفكير و سلوك كل من الرجال و النساء من أنهم يقفون في وجه علوم البيولوجيا و علوم المخ و الأعصاب، و ترى أن إنكار هذه الفوارق يعتبر كالوقوف في وجه تغيرات الطقس أو إنكار وجود جبال الهمالايا… إنها دعوة للتعامل مع الحقائق و التوقف عن محاولة إنكارها”⁶.

شعار “المستقبل أنثى” الذي ترفعه النسويات.

سيداو تفرض المساواة بين الجنسين


ولكي تُشَرعَن هذه الأفعال تم إصدار ” اتفاقية سيداو” تحت إشراف “الأمم المتحدة” التي أكدت في المادة الخامسة على “تغيير الأنماط الاجتماعية و الثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات و العادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الاعتقاد بكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل و المرأة”.
فكل هذه المحاولات التي تدعو ل”إعادة صياغة كل من الجنسين في قالب من “المماثلة” الجنسية عن طريق سن القوانين وتأليف الكتب وإخراج الأفلام تعتبر وقوفا في وجه الحتمية البيولوجية والفطرة الإنسانية، ولن تخرج إلى الوجود إلا مسوخا بشرية مشوهة أقل قدرة على التعايش وعلى خلق مجتمع سعيد و كل ذلك بدعوى “المساواة” بين الجنسين”⁷.
فكلمة المساواة التي يتم ترديدها بكثرة تروم وضع الرجل والمرأة على خط واحد دون الحديث عن الاختلاف. وهذا سيوصل الجنسين إلى حالة من الخلاف يصعب إيجاد توافق حولها. ف”لم يمر على البشرية عبر التاريخ وقت سعت فيه بإصرار إلى مخالفة الفطرة الإنسانية والطبيعة البيولوجية كما يحدث الآن في حضارتنا المادية. إنه زمان بشع يصارع فيه كل من الرجل والمرأة، ضد الفوارق الفطرية الطبيعية بينهما”⁸. (تصريح آن موير في كتابها جنس المخ).


فالمرأة و الرجل خلقا ليعيشا جنبا إلى جنب و حتى يكملا بعضهما البعض. و هما مدعوان لفهم نفسيهما قصد الوعي بالخطر الذي يتربص بهما خاصة ما يتعلق بالمساواة. و الحركات النسوية التي أصبحت متواجدة في كل دول العالم “ينبغي أن تتبنى “الدعوة إلى المساواة” في الحقوق و الواجبات بين الرجال و النساء في إطار طبيعة كل جنس و دوره في المجتمع و في الحياة. بدلا من أن تدفع بالمرأة في طريق مليئ بالتعاسة من خلال إنكارها للفوارق البيولوجية. إن هذه الحركات ترى أن قبول الفوارق البيولوجية يعني بالتبعية أن تقبل المرأة .-من وجهة نظرهم-. بدورها التقليدي كخادمة في المنزل، و أن تضحي بمستقبلها المهني و أن تقبل القيم التي تبقيها أدنى منزلة من الرجل”⁹.

الغاية من النسوية


إن ما ترمي إليه “النسوية” و ما جاءت من أجله يروم القضاء على الأسرة التي تعتبر النواة و الحجر الأساس في صرح مجتمع ناجح. و حين تتغير المعايير الطبيعية للبشر فإن وجود الإنسان سيصبح تحت التهديد. فمخطط التكنوقراط يسعى لتغيير الإنسان بالآلة. و بناءً على هذا لم تعد الحاجة ملحة لوجود عدد كبير من البشر. فالعالم بهذه السياسات و هذه الإجراءات يسير نحو حكومة عالمية واحدة تكنوقراطية، و بالضبط نحو ” عالم السيطرة الصامتة.. حيث الأيدي تبدو مقيدة و اعتمادنا على الشركات في ازدياد. و المؤسسات الصناعية و التجارية هي التي تتولى عملية القيادة، و الشركات الكبرى هي التي تحدد قواعد اللعبة. و غدت الحكومات هي حكام هذه الألعاب الذين يطبقون قواعد وضعها آخرون”¹⁰.

لقد ساهمت انتقادات تلك العائدات من عالم النسوية في إيقاظ وعي الكثير من النساء اللائي صرن يرفضن الكثير من الأفكار التي توهمهن بالحرية. و لكي تستمر اللعبة عملت الدولة العميقة على إنشاء حركة “الحبة الحمراء Red Pill” لكي يستمر النزاع بين الجنسين و يتواصل تنزيل الأهداف رويدا رويدا.


بعد هذا العرض المبسط لقضية تخص المرأة و علاقتها بالرجل و دورها الفاعل في المجتمع. أقول أن للمرأة كامل الحرية في اختيار العمل من دونه، لكن أود تذكيرها أن الرجل ليس عدوا لها، بل شريك أساسي لا غنى عنه في الحياة، كما أنني لست ضد حق المرأة في العمل، بل ضد المرأة التي تنسى أنها أنثى بسبب العمل.

______________
قائمة المراجع:

¹: المرأة بحث في سيكولوجيا الأعماق، بيير داكو، ترجمة وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة و الإرشاد القومي- دمشق 1983، ص: 19.
²: المرأة بحث في سيكولوجيا الأعماق، بيير داكو، ترجمة وجيه أسعد، مرجع سابق، ص:25.
³: المرجع نفسه، ص: 34.
⁴: المرجع نفسه، ص: 34.
⁵: المخ ذكر أم أنثى، عمرو شريف و نبيل كامل، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الثالثة 2016، ص: 204.
⁶: المخ ذكر أم أنثى، عمرو شريف و نبيل كامل، مرجع سابق، ص: 204.
⁷: المخ ذكر أم أنثى، مرجع سابق، ص:205.
⁸: المرجع نفسه، ص: 239.
⁹: المرجع نفسه، ص: 205.
¹⁰: السيطرة الصامتة، نورينا هيرتس، ترجمة صدقي حطاب، منشورات عالم المعرفة عدد 336، سنة 2007، ص 14.

2 تعليقات

    • بارك الله فيك أخي محمد، يمكنك الاطلاع على الجزء الأول من المقال، تحت عنوان “الثورة الجنسية”.
      شكرا على مروركم الطيب.
      تشرفني متابعتكم.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *