رقمنة المجتمع… الأخ الأكبر يراقبك

دعت مجموعة دول العشرين من خلال قمة الهند التي انعقدت يومي 09 و 10 شتنبر 2023 إلى تسريع تنزيل “البنية التحتية الرقمية” في جميع دول العالم. لذلك، تتسارع الخطى من أجل تفعيل هذا المشروع الضخم. ففي هذا السياق قالت رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا أثناء افتتاح مؤتمر حول العملات الرقمية في مدينة سيول – كوريا الجنوبية يوم 14 دجنبر 2023، أن ” العملات المشفرة تحتاج  إلى التنظيم لأنها تشكل مخاطر على الاستقرار المالي”. و بفعل تركيزها على حماية النظام المالي العالمي أضافت، “هدفنا هو إنشاء نظام مالي أكثر كفاءة و قابلية للتشغيل البيني، و يمكن الوصول إليه من خلال توفير قواعد لتجنب مخاطر العملات المشفرة و البنية التحتية من خلال التحكم في بعض تقنياتها”.

من أجل مجاراة المشاريع الدولية أطلق المغرب مشروع الدعم الاجتماعي لفائدة الأسر المعوزة. التي ستتلقى مبلغا ماليا كل شهر وفق عدة شروط، أهمها؛ ضرورة التوفر على حساب بنكي. فالمغرب بهذا المشروع يؤكد على انخراطه في مشروع ” البنية التحتية الرقمية”. و هي خطوة ليس هدفها دعم الأسر كما يشاع، بل رقمنة المجتمع من خلال تمهيد الطريق للعملة الرقمية. التي ستكون عملة قابلة للبرمجة و بواسطتها سيتم العمل على تنزيل الهوية الرقمية.

لقد عملت أنظمة الحكم منذ القديم على اتباع أساليب متنوعة تتحكم من خلالها في الشعب. عبر توجيه الرأي العام و إلهاء الناس عن القضايا الأساسية بأحداث و تطورات ثانوية. حتى يتسنى للحكام تنويم وعي الرعايا و المواطنين و اقتيادهم نحو مصير يجهلون تبعاته. إن كل ملاحظ لأنظمة الحكم الآن يتبين له أن النموذج الصيني قد تقدم كثيرا في ضبط سلوك المواطنين و التحكم في ما يرغبون عن طريق تقنيات حديثة تمكن التكنوقراطيون من ابتكارها لتيسير تنزيل أجندات معدة مسبقا.

نظام الائتمان الاجتماعي

لكي تتمكن الصين من مراقبة شعبها وضعت ”نظام الائتمان الاجتماعي“ سنة 2014. استهدفت من خلاله ”التأكد من امتثال الأشخاص و الشركات الذين يعيشون أو يعملون في الصين للقواعد و اللوائح المعمول بها هناك من خلال فرض مكافآت على الامتثال و عقوبات على عدم الامتثال“. كما يستهدف ”تنظيم السلوك الاجتماعي و التأكد من أن أولئك الذين يتم توثيقهم يظلون «جديرون بالثقة»“.

تعود جذور ”نظام الائتمان الاجتماعي“ إلى القرنين السادس و الخامس قبل الميلاد. حين كان الفيلسوف الصيني كونفشيوس يرى أن المجتمع المنظم و الناجح ينبني على الفرد المنضبط المنظم الذي يساهم في خلق مجتمع جيد. و بناء على التزام الفرد يتكون مجتمع متكامل خال من مظاهر الصراع و التفكك. و الصين باعتمادعها هذا النظام تكون قد عبّدت الطريق نحو مجتمع خاضع لتعاليم صارمة محددة سلفا. حيث يحتوي النظام على مكافآت من قبيل ”الحصول على تخفيضات على فواتير الخدمات العامة و تسريع عمليات تقديم الطلبات للسفر إلى الخارج“. و تخصص هذه المكافآت لأصحاب السجل الائتماني الجيد أي ذوي السلوكات الفاضلة. في المقابل يتلقى أصحاب السجل الائتماني السيء عقوبات مثل ”فرض قيود على الرحلات الجوية، القطارات، فرص العمل و التعليم“.

لقد قطعت الصين أشواطا كثيرة في رقمنة المجتمع من خلال رقمنة الاقتصاد و الخدمات العامة، حتى بات الإنسان آلة في يد الآلة نفسها. و أصبحت معاملاته رقمية و حياته محاطة بتقدم تقني رهيب و ذكاء اصطناعي يزداد تغلغلا في حياة المواطنين و المؤسسات على حد سواء. و قد قدمت الصين بنظامها هذا نموذجا للمؤسسات الدولية الكبرى التي تريد تحويل الأفراد إلى أدوات قابلة للتحكم و التوجيه. لهذا تسعى تلك المؤسسات إلى رقمنة المجتمع كما فعلت الصين. و ما دام الأفراد أدوات في يد الدولة فإن الدول نفسها أدوات في يد تلك المؤسسات العابرة للقارات و الحكومات. من أجل تحقيق ذلك تُعقد المؤتمرات الدولية و تجري المحادثات في مختلف وسائل الإعلام من طرف الرؤساء و نوابهم لتفصيل تدابير تلك الرقمنة.

رقمنة المجتمع في المغرب

تبدأ أجندة رقمنة المجتمع في المغرب من جعل المواطنين يرتبطون بالحسابات البنكية و تنزيل تطبيقاتها على الهواتف قصد تتبع المساعدات التي تحولها لهم الدولة. و من خلال وضع مشروع آخر مهم يتعلق ”بالتبادل الإلكتروني للبيانات عبر تطوير المنصة الرقمية المشتركة للربط البيني، عن طريق اعتماد مشاريع مختلفة، مثل “مشروع السجل الاجتماعي الموحد”. و”مشروع تعميم التأمين الإجباري عن المرض”.

كما سبقت الإشارة، و على غرار باقي الدول انخرط المغرب في مشروع ”البنية التحتية الرقمية“ الذي يستهدف وضع شبكة رقمية تمكن المواطنين من الارتباط بالمشاريع و التطبيقات السالفة الذكر. لهذا عملت الدولة على إطلاق الأنترنيت الفضائي في المناطق النائية و تجهيز المدن بالألياف البصرية. كل هذه المشاريع تروم طبعا تحقيق رقمنة المجتمع رقمنة كلية لن تدع أحداً يفلت من قبضة المراقبة التي ستيسرها كثيرا العملة الرقمية القابلة للبرمجة التي ستعمل على ” برمجة الأموال على كيفية إنفاقها من قبل الفرد، أو حظرها، أو جعلها تنتهي صلاحيتها، أو جعلها تستخدم في سلع أو خدمات معينة أو يمكن حجبها بالكامل، أو محوها، اعتمادا على  مدى حسن تصرف [الفرد]”.

سيعمل مشروع الدعم الاجتماعي على تخصيص مبلغ مالي شهري للأسر الفقيرة في المغرب.

فهذه العملة القابلة للبرمجة ستمهد الطريق أمام النخبة العالمية للتحكم في الشعوب بشكل غير مسبوق. و ستتغير تجليات الحياة بشكل كبير و ستختفي الامتيازات و تندثر الحقوق و الحريات. لأن الدول ستنتقل من المراقبة الصلبة إلى المراقبة الناعمة. حيث سيتم وضع كاميرات التعرف على الوجه في وسائل النقل و في الشوارع. بالإضافة للرقائق الإلكترونية التي سيتم زرعها في دماغ الإنسان أو في جزء آخر من جسده. مما سيعفي الدولة من توفير آلاف الأشخاص المكلفين بمراقبة المواطنين و ضبط سلوكهم. و هذا الأمر سيجعل المواطن يخضع لقرار الدولة التي ستعاقبه في حالة رفض الأوامر و معارضتها بتوقيف صرف العملة الرقمية و تصنيف ذلك المواطن في خانة المغضوب عليهم. و هذا سيخرج الفرد من مجال المواطنة إلى التبعية المفروضة بالقوة.

المخاوف المرتبطة برقمنة المجتمع

فرقمنة المجتمع ستؤدي إلى إحداث فجوة كبيرة بين ”المواطنين الرقميين و أولئك الذين قد يكافحون من أجل مواكبة سرعة التغيير.  و تتمثل إحدى المخاوف في قدرة التكنولوجيات الرقمية على استدامة أوجه عدم المساواة القائمة و خلق تفاوتات جديدة.  على سبيل المثال، قد يكون الأفراد الذين لا يستطيعون الوصول إلى الإنترنت أو الأجهزة الرقمية محرومون من حيث التوظيف و التعليم و المشاركة في المجتمع.  و هناك أيضا خطر أن يؤدي الاعتماد المتزايد على التقنيات الرقمية إلى فقدان المهارات و المعارف التقليدية. الأمر الذي قد يمثل مشكلة خاصة بالنسبة للمجتمعات المهمشة“.

الرقمنة الروحية

إن رقمنة المجتمع لن تقتصر فقط على الجانبين الاقتصادي و الاجتماعي، بل ستتعداهما للجانب الروحي الذي يعتبر مجال قوة الإنسان. حيث إن ”رقمنة المجال الروحي بشكله النهائي في المستقبل تعني التدمير الشامل للقيم الإنسانية البحتة المتعلقة بالجانب الأخلاقي و الديني. ففي الواقع، تقطع الرقمنة جميع روابط الشخص بالبعد الروحي. فقد لاحظ اللاهوتي الأمريكي و المهندس لوريل دوفيتش. بأن “الحياة في المجتمع و التواصل المستمر مع أفراده تمثل عملة النمو الروحي”.

كما يمكن أن تقود رقمنة المجتمع في المستقبل إلى تدمير الفرد لذاته و نهايته كمخلوق عاقل و حكيم. و حسب يوفال نوح هراري فإن الرقمنة ”سوف تمنحنا القوة على العالم الداخلي و تسمح لنا بتغيير أنفسنا. لكننا لا نفهم مدى تعقيد أذهاننا، و يمكن أن يكون لهذه التغييرات تأثير مدمر على نظام تفكيرنا بأكمله“.

إذن من خلال هذه الفقرات بات واضحا أن العالم مقبل على تغيرات عميقة جدا ستقضي على عدة امتيازات كان يحظى بها الإنسان في الماضي. بالمقابل ستحدث تحولات في بنية المجتمع الذي سيعاني الويلات من جراء طغيان الرقمنة على جميع مناحي الحياة. سينقل التحول الرقمي المجتمعات إلى ما بعد الإنسانية. حينها ستزداد سيطرة الذكاء الاصطناعي الذي سيساعد المؤسسات الكبرى على تنزيل فصول الجمهورية الرقمية من خلال تأسيس حكومة عالمية شمولية تراقب كل شيء و تعرف عن الإنسان أكثر مما يعرف عن نفسه. و بهذه الممارسات سنقول لجورج أورويل بأنك كنت محقا عندما صغت شعار ”الأخ الأكبر يراقبك“.

من بين شعارات رواية 1984: “الأخ الأكبر يراقبك”

تعليق واحد

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *