منتدى دافوس… إعادة بناء الثقة

تأسس منتدى دافوس في 24 يناير 1971 من طرف كلوس شواب، و يتم تنظيم المنتدى خلال شهر يناير من كل سنة. يحضره كبار السياسيين و المستثمرين و مدراء المؤسسات الكبرى، بالإضافة إلى ممثلي الشركات المتعددة الجنسيات. يشرف على أشغال دافوس، المنتدى الاقتصادي العالمي برئاسة كلوس شواب، الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي لكلا المنتديين. كما يعتبر منتدى دافوس منظمة غير حكومية و غير ربحية. يهدف إلى مناقشة القضايا الدولية التي تشكل خطرا على العالم و تهدد حياة المواطنين و الدول على حد سواء.

جيوتاريخ سويسرا

تقع مدينة دافوس الصغيرة على نهر لاندويسر في كانتون غراوبوندن شرق سويسرا. و المدينة عبارة عن منتجع شتوي يقع في المنطقة الشرقية من جبال الألب على ارتفاع 1563 متر.  لهذا اشتهرت بالرياضات الشتوية و بطولات التزحلق على الجليد. كما حظيت مدينة دافوس بمكانة كبيرة خلال القرن الثامن عشر بفعل جوها الساحر و هوائها النقي. مما جعل منها قبلة للأثرياء و الأدباء و المرضى الباحثين عن العلاج الطبيعي. لأن وادي لاندويسر يلطف الجو و يوفر إمكانية الشفاء من الأمراض الصدرية.

مدينة دافوس

تتخذ سويسرا موقعا خاصا بين دول العالم، ذلك أنها الدولة التي لا تشارك في الحروب، و لا في الصراعات الدولية. حتى إنها لم تشارك في الحرب العالمية الأولى و الثانية، و غير منتمية للاتحاد الأوربي. كما تحتضن كبريات الشركات البنكية، مثل بنك الاتحاد السويسري المعروف ب UBS bank، و كريدي سويس  CreditSuisse، و الشركات المتعددة الجنسيات مثل نيستلي، نيسكافي. كما توجد بها أيضا المنظمة الأوربية للأبحاث النووية، المعروفة اختصارا بمنظمة سيرن Cern. لكن كيف تبوأت سويسرا هذه المكانة؟

عندما تم تأسيس منظمة المتنورين سنة 1776 على يد آدم وايزهاوبت في منطقة بافاريا بألمانيا، التي تغلغلت في دواليب الدولة و استطاعت تكوين أشخاص وصلوا لمستويات عليا في السلطة و المسؤولية، و بعد تزايد أنشطة المتنورين تم اكتشاف أمرهم و صدر أمر حل منظمتهم و معاقبة أعضائها. قرر المتنورون نقل مركز المنظمة إلى سويسرا و اتخاذها مقرا سريا لهم. و منذ ذلك الحين و سويسرا مركزا للمنظمات و المؤتمرات السنوية التي تلعب دورا محوريا في توجيه السياسة الدولية، و في وضع  أجندات متعددة المجالات.

الشريحة المزروعة

اتخذ منتدى دافوس صيتا عالميا منذ سنة 2016 عندما قدم كلوس شواب كتابه ”الثورة الصناعية الرابعة”. حيث قال في برنامج تلفزيوني سنة 2016 كتعليق عن الكتاب:. ”تخيل بحلول عام 2025، قد يكون لدينا جميعا شريحة مزروعة في مكان ما في أجسامنا أو دماغنا. و قد نتمكن من التواصل مع بعضنا البعض بدون هاتف، حتى بدون استخدام صوتنا “.  و بالتالي فأمر الشريحة المزروعة حسب شواب نفسه يقود إلى الاندماج بين العالم المادي و الرقمي و البيولوجي.

لقد تعاظمت قوة المنتدى بعد دورة 2020 التي خصصت لقضية التحول المناخي و آثاره الوخيمة على الاقتصاد العالمي. ثم التحدي الذي فرضه فيروس كورونا على العالم. لمواجهة هذه التحديات، طرح كلوس شواب كتاب ”إعادة الضبط الكبرى“ الذي يتفق مع الأمم المتحدة على تنزيل أهداف التنمية المستدامة لسنة 2030. و تعني عملية إعادة الضبط حسب كلوس شواب:. “بناء أسس نظامنا الاقتصادي و الاجتماعي بشكل عاجل من أجل مستقبل أكثر عدالة و استدامة و مرونة بعد كوفيد-19”.

تقود الشريحة المزروعة إلى الاندماج بين العالم المادي و الرقمي و البيولوجي.

التعاون في عالم مفكك

بعد اندلاع الحرب الأوكرانية صار العالم أكثر انقساما و تفككا، لأن الشرق بدأ ينسل من قبضة الغرب. و لمعالجة هذا المشكل وضع منتدى دافوس شعار: ”التعاون في عالم مفكك“  لدورة سنة 2023. حيث لخص شواب ذلك الوضع بقوله، ” في بداية هذه السنة نواجه تحديات متعددة و غير مسبوقة، أولاً، يمر اقتصادنا بتحول عميق؛ الانتقال الطاقي، و عواقب فيروس كورونا، و إعادة تشكيل سلاسل التوريد.  ثانياً، يمر النظام الجيوسياسي أيضاً بتحول نظامي عميق. دوليا نحن ننتقل إلى ما يسميه البعض ”خليط فوضوي من السلطة“، ثالثا، لقد وصل جيلنا إلى نقطة تحول في مواجهة مشاكل وجودية حقيقية، مثل تغير المناخ، استغلال الطبيعة، و الحوادث النووية المحتملة، و الأسوأ من ذلك، الفقر المدقع و الفيروسات. و يمكن أن ينتهي الوضع بانقراض أعداد كبيرة من سكان العالم“.

و بعد تشخيص وضع العالم قدم شواب نظرة المنتدى الاقتصادي العالمي حول بعض الحلول المقدمة من خلال منتدى دافوس. ”لدينا القدرة على العمل بشكل تعاوني لبناء عالم أكثر سلمية و مرونة و شمولا و استدامة. و لكن للقيام بذلك نحتاج إلى التغلب على التشرذم الحرج… الاستثمار في اقتصاد أكثر اخضرارا و أكثر استدامة، و الاستثمار في مجتمع أكثر تماسكا، من خلال تزويد الجميع بالمهارات و الفرص المناسبة، و الاستثمار في البنية التحتية الصلبة و اللينة التي تحتاجها المجتمعات الحديثة“.

بناء مستقبل جديد

في اللحظة التي كان ينتظر فيها العالم انتهاء حرب أوكرانيا. نشبت عملية طوفان الأقصى التي أضافت جروحا جديدة لجسم العالم المريض التي واكبتها أزمة البحر الأحمر التي أفقدت الاقتصاد العالمي صوابه، و خلقت اضطرابا سياسيا في عالم يزداد تفككا و يتجه نحو التعددية القطبية. و في هذا السياق قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس خلال منتدى دافوس لهذه السنة، 2024. ”إن إعادة بناء الثقة ليست شعارا أو حملة علاقات عامة، بل إنها تتطلب إصلاحات عميقة للحكامة العالمية من أجل إدارة التوترات الجيوسياسية خلال حقبة جديدة من التعددية القطبية، و هي ضرورية لبناء عالم أكثر أمانا و استقرارا و ازدهارا… لا نستطيع أن نبني مستقبلا لأحفادنا بنظام بني لأجدادنا“.

إعادة بناء الثقة

و لم يدع كلوس شواب الفرصة تمر دون تذكير الحاضرين لمنتدى دافوس 2024 بدور المنتدى الاقتصادي العالمي. ”إن الدور الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي لا يتمثل في النظر إلى قضية واحدة فقط، بل هو المكان الذي نجتمع فيه معا في بداية العام لتحليل حالة العالم بطريقة منهجية و استراتيجية، و نأمل أن نجد أرضية مشتركة لتوليد تأثير إيجابي“ و من أجل تفصيل أكبر لدور منظمة الأعمال، أضاف شواب في نفس الخطاب، “نحن بحاجة إلى نقلة نوعية، يجب أن نعيد بناء الثقة، و في الواقع هذا هو موضوع اجتماعنا، علينا إعادة بناء الثقة: الثقة في مستقبلنا، الثقة في قدرتنا على التغلب على التحديات، و الأهم من ذلك، الثقة في بعضنا البعض. الثقة ليست مجرد شعور، الثقة هي التزام بالعمل، بالإيمان، بالأمل… لا يتعلق الأمر بالمكاسب قصيرة المدى أو النجاحات الفردية، بقدر ما يتعلق بإدارة الحفاظ على عالمنا و تعزيزه للأجيال الحالية و المستقبلية“.

و لكي يوضح شواب فلسفة منتدياته بخصوص مفهوم الثقة، يضيف ”مفهوم الثقة و الوصاية يجبرنا على التفكير في ما وراء الحدود و ما بعد حياتنا. حيث يشجع التعاون على المنافسة،  الاستدامة على النفعية، و التعاطف على اللامبالاة. باعتبارنا أمناء المستقبل، فإننا مسؤولون عن النهوض بعالم أكثر ثراء في الإمكانيات، و أكثر إنصافا في الفرص، و أكثر أمانا في المرتكزات. علاوة على ذلك، باعتبارنا قادة في الأعمال الحكومية و المجتمع، فإننا نتحمل مسؤولية خاصة لإعادة بناء الثقة في كيفية تولينا لمسؤولياتنا كأوصياء“. و في ختام خطابه الذي خصصه لإعادة بناء الثقة، قال شواب، ”الثقة هي ركيزة أساسية لحياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و هي حيوية للتعاون و التماسك الاجتماعي و المؤسسات الفعالة.  و لإعادة بناء الثقة، هناك حاجة أساسية لتجسيد الوصاية، و هو ما يعني الاهتمام بالصالح العام. دعونا نستخدم هذا الاجتماع السنوي لإعادة بناء الثقة من خلال ممارسة وصايتنا، فرديا و جماعيا، لحماية مستقبل البشرية و الطبيعة“.

كلوس أثناء تقديم خطاب “إعادة بناء الثقة”.

الجائحة X

هكذا إذن يحوز منتدى دافوس على مكانة كبرى من خلال مواضيعه و الاستراتيجيات التي يضعها أعضاؤه من أجل حكم العالم و توجيهه حيث يريدون، اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا، تكنولوجيا و بيئيا.

بالإضافة إلى كلوس شواب و أنطونيو غوتيريس، حضر المنتدى أيضا أدهانوم تيدروس غيبريسوس المدير العام لمنظمة الصحة العالمية الذي بشر العالم بقدوم جائحة جديدة أكثر فتكا من فيروس كورونا. ففي كلمته في منتدى دافوس 54 قال، ” يمكن تسمية كوفيد بالمرض X  الأول و قد يتكرر مرة أخرى… يجب ألا نواجه الأمور دون استعداد… يجب أن نستعد بجميع الوسائل، يمكن أن يكون بنظام إنذار مبكر، أو بالبنية التحتية الصحية  … و المفتاح الآخر للاستعداد بشكل أفضل هو اتفاقية الوباء التي يمكن أن تجمع الخبرة و جميع التحديات التي واجهناها و كل الحلول في قالب واحد.  و يمكن أن يساعدنا هذا الاتفاق على الاستعداد للمستقبل بطريقة أفضل. لأن الأمر يتعلق بعدو مشترك، و بدون استجابة مشتركة، سنواجه نفس مشكلة كوفيد“.

أدهانوم تيدروس غيبريسوس المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أثناء مشاركته في منتدى دافوس 2024.

ما دام قد تحدث المسؤول عن الصحة العالمية عن جائحة جديدة، فمسببات المرض قد تكون مختلفة تماما عن فيروس كورونا. لكي يكون الاستعداد جيدا ستنظم منظمة الصحة العالمية مؤتمرا في شهر ماي القادم لتنزيل أجندتها بخصوص الوباء المجهول. و قد كانت جامعة هوبكينز قد نشرت سنة 2017 تقريرا مفصلا لجائحة تضرب العالم سنة 2025 و تستمر إلى سنة 2028. و ستكون بسبب فيروس يصيب الرئة و سيؤثر على الأطفال و النساء الحوامل، هل يا ترى هذه هي الجائحة X، أم هي جائحة أخرى؟

تجاوز الإنسان

لقد أصبح منتدى دافوس ناديا خاصا لممثلي المؤسسات الكبرى و الشركات المتعددة الجنسيات، و مقرا لتنزيل مختلف الأجندات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية و البيئية. و في ظل هذا النظام الهرمي صارت الدول مجرد أدوات و أجهزة تنفذ البرامج المقررة في منتدى دافوس و باقي المنتديات. و لم يعد للمواطنين أي قيمة في نظر هؤلاء المؤتمرين، بل أصبحوا عبئا يجب التحرر منه. لأن موارد الأرض لم تعد تحتمل هذا العدد المرتفع، و أصبح التخلص من ملايين البشر ضرورة ملحة لدى النخبة العالمية.

ما دام شواب قد تحدث عن استعادة الثقة. و عن أن السياسيين قد أصبحوا أوصياء على السياسة الدولية، فإن العالم سيصبح أكثر رعبا و سيختفي الاستقرار، و ستمسي مشاهد الحرب و  الجوع و العطش أكثر انتشارا عبر العالم، و سترافق هذه الإجراءات حملات تخويف و ترهيب أكثر مما كانت أثناء فترة وباء كورونا. لأن الخوف يفقد الناس الصواب و يجعلهم يقبلون بكل الحلول المقدمة لهم. و في ظل تنزيل أجندة 2030، يلتزم جميع الأوصياء بأهداف التنمية المستدامة، كما أن التقنية و التجديد العلمي يستهويان أصحاب ”إعادة بناء الثقة“ الذين فرضوا أنفسهم فرضا على دول العالم، و يسعون لتأسيس دولة شمولية تكنوقراطية، ستعمل على تسخير الذكاء الاصطناعي من أجل تجاوز الإنسان و قتله روحيا، ثم جعله يفقد المعنى في حياته لكي يسلم نفسه لكلوس شواب و أعوانه .

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *