البحر الأحمر… شريان الاقتصاد العالمي

طرأت على الساحة الدولية في الفترة الأخيرة عدة أحداث، لعل أبرزها عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 التي تسببت في تشريد مواطني غزة، و لا زالت رحى الحرب مستمرة أمام مرأى و مسمع من الجميع. و في خضم هذه الحرب تعرضت مجموعة من السفن للهجومات في البحر الأحمر، الذي يعتبر شريان الاقتصاد العالمي. إذ قام مجموعة من الجنود الحوثيين بشن تلك الهجمات في مضيق باب المندب الذي يعتبر محور وصل بين البحر الأحمر و المحيط الهندي. و نظرا لموقعه الاستراتيجي الذي تمر منه أساطيل تجارية كثيرة العدد. فإنه يلعب دورا محوريا في المبادلات العالمية، إذ إن 80٪ من هذه المبادلات تمر عبر مضيق باب المندب و البحر الأحمر.

جغرافية البحر الأحمر

 يقع البحر الأحمر بين شبه الجزيرة العربية و شرق إفريقيا، تطل عليه مجموعة من الدول، منها: المملكة العربية السعودية. السودان. مصر، اليمن، إريتريا، جيبوتي. يفوق طوله 2000 كلم، كما يعتبر نقطة وصل بين القارات الثلاث؛ إفريقيا، آسيا و أوربا.  و بفعل موقعه الاستراتيجي، يحظى بأهمية تجارية كبرى. حيث تعبر منه السفن التجارية القادمة من شرق و جنوب شرق آسيا و المتوجهة إلى أوربا، و أمريكا الشمالية. التي تصل إلى البحر الأبيض المتوسط مرورا عبر قناة السويس.

استمرار الأزمات في البحر الأحمر الذي يعتبر شريان الاقتصاد العالمي، سيخلف عدة أزمات.
موقع البحر الأحمر على الخريطة

خلفية تاريخية

شكل البحر الأحمر معبر تجارة التوابل خلال العصور الوسطى. حيث كان العرب يلعبون دور الوساطة التجارية بين الهند و الدول الأوربية. إذ ساعدت هذه الوساطة العرب في تكوين اقتصاد قوي ساهم في الازدهار الثقافي و الفكري الذي كانت تنعم به دول المشرق العربي خلال أوج حضارة العرب. لكن بداية حقبة الاكتشافات الجغرافية، خلال القرن 15 الميلادي. جعلت المستكشفين البرتغاليين يبحثون عن طريق بحري مختصر يمكنهم من الوصول لأوربا بسرعة عوض طريق الرجاء الصالح الطويل، فحاولوا العبور من البحر الأحمر، لكن الإمبراطورية العثمانية كانت لهم بالمرصاد، فدخلت معهم في عدة مواجهات، تمكنت على إثرها من تأمين البحر الأحمر و منع مرور السفن الأوربية، حيث عادت الوساطة الإسلامية من جديد، فانتعشت بذلك دول المشرق العربي المطلة على البحر المتوسط، و عاد البحر الأحمر إلى حيويته القديمة.

الأهمية الاقتصادية

يعود اسم الحوثيين إلى مؤسس جماعة ”حركة أنصار الله“ بدر الدين الحوثي الذي ازداد في دولة اليمن و توفي بها (1926- 2010). ظهرت تلك الحركة في تسعينيات القرن الماضي و تحالفت مع إيران في حربها ضد المملكة العربية السعودية. بعد انطلاق حرب طوفان الأقصى، قامت جماعة الحوثي منذ شهر أكتوبر  2023 بشن هجومات و غارات جوية على السفن الإسرائيلية، ثم السفن الأمريكية و البريطانية و ضد سفن كل دولة تدعم إسرائيل في حربها على قطاع غزة.

و قد تَوالت تلك الهجمات حتى تَسببت في إغلاق البحر الأحمر في وجه السفن التجارية، التي أُجبرت على المرور عبر رأس الرجال الصالح جنوب دولة جنوب إفريقيا، مما جعل مسافة الرحلة تزداد بحوالي 6000 كلم، و مدتها ما بين 10 أيام و 15 يوما. لقد كانت لهذا الهجوم عدة تبعات تجلت في إبطاء سلاسل التوريد، إعادة رفع نسب التضخم، عرقلة إمدادات الطاقة، ارتفاع أسعار الفائدة، و انخفاض النمو. كما أن المصانع الأوربية، خاصة الألمانية، صارت تعاني الركود بسبب تأخر وصول قطع الغيار، مما يعني ازدياد تكاليف الإنتاج و تسريح العمال.

إن عرقلة إمدادات الطاقة ستؤدي إلى ارتفاع أسعار المحروقات، مثلما ستتسبب في رفع الأسعار و إضعاف القدرة الشرائية لدى المستهلكين، و يمكن أن تكون هذه الأزمة تمهيدا للانتخابات الرئاسية الأمريكية في نونبر المقبل، خاصة أن الديمقراطيين يريدون تخويف الشعب الأمريكي من عواقب هذا الهجوم.

نموذج للسفن العابرة للبحر الأحمر.

يجب مهاجمة إيران

كرد فعل على هجومات الحوثيين، أقدم كل من الجيش الأمريكي و البريطاني على توجيه ضربات جوية للحوثيين في اليمن من أجل ثنيهم عن مهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر. و كانت تلك الضربات القوية بمثابة رسالة لإيران التي تدعم الحوثيين حسب رواية أمريكا و حلفائها. حيث قال جون بولتون أن إيران هي التي هاجمت إسرائيل في عملية طوفان الأقصى. أما حركة حماس -حسب بولتون- فهي فقط بديل للجيش الإيراني، و قد ذهب بعيدا في تعليقه. ”لا يبقى أمام الغرب الآن خيار سوى مهاجمة إيران“. و في نفس السياق، يقول الاقتصادي و الدبلوماسي مارك والاس. ”هذا عمل إيران، ستعاني إيران من الانتقام و ستعاني من عواقب دعم هذه الجماعة الإرهابية و هجومها المروع على إسرائيل“.

لا يبقى أمام الغرب الآن خيار سوى مهاجمة إيران. جون بولتون.

كما يتهم الغرب إيران بدعمها حماس، يقول بوقوفها وراء جماعة الحوثيين، و بالتالي فهي مسؤولة عن هجمات البحر الأحمر. لكن الغريب في الأمر أن الحوثيين لا يهاجمون السفن الروسية و الصينية. ففي مقابلة تم نشرها الجمعة الماضية، تعهد المسؤول الحوثي الرفيع محمد البخيتي بمرور السفن الروسية و الصينية بشكل آمن في البحر الأحمر. هل تحالف إيران مع الصين أثمر هذا التمييز، أم أن الصين تريد ضرب الاقتصاد الأمريكي و الغربي عن طريق إيران؟

إن أزمة البحر الأحمر الحرجة تزيد من تعميق جراح الاقتصاد العالمي الذي لم يتخلص بعد من تبعات كورونا و حرب أوكرانيا. ففي ظل الانتقال الطاقي الذي يتم الترويج له سياسيا و إعلاميا. سيتم تسعير الكاربون لكي يقل استهلاك الوقود الأحفوري، و كل هذا سينعكس سلبا على الصناعة التي باتت تعاني الركود و ما يرافق ذلك من بطالة و تدهور للقدرة الشرائية. كما سيتم اعتماد بصمة الكاربون لكي تتسلم الدول مهمة توزيع إعانات الغذاء. و ستنتشر دعاوى تعميم العملة الرقمية لمواجهة التضخم و الأزمات المالية.

عالم من الخيال

إن المؤسسات الكبرى مثل الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، المنتدى الاقتصادي العالمي. و أنشطتهم السنوية كمؤتمر دول الأطراف، قمة الأعمال، مجموعة العشرين، البريكس. كلها تدعو لتحقيق أهداف التنمية المستدامة و اتباع نفس الأساليب من أجل تنزيل أجندة 2030.

هل عالم المستقبل شبيه بعالم اليوم؟

إن العالم الآن يقف بين مفترق طرقي خطير. حيث أمريكا تريد استمرار هيمنتها على العالم، بينما الصين تتطلع للسيطرة على العالم بطرق مختلفة و تقنيات و أساليب غير معهودة. مثل الشريحة الإلكترونية، نظام الائتمان الاجتماعي، الذكاء الاصطناعي. فنخبة الدولة العميقة التي تريد استمرار هيمنتها على العالم لا يهمها من ينتصر في الصراع. بقدر ما يهمها مدى انصياع الدولة لمخططاتها. و بفعل هذه السياسة القاتلة يمكن أن تتوسع رقعة الحرب في الشرق الأوسط، و يمكن إعلان الحرب على الصين. و يمكن توقيف سلاسل التوريد العالمية. كما يمكن أن تحدث أزمة و فوضى عارمة تغير وجه العالم الذي عهدناه. و تتسبب في تكوين عالم كان موجودا فقط في قصاصات الخيال العلمي.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *