تتمة مقال ” النظام العالمي المتعدد الأقطاب”

الــجــزء الــثــانــي

ناقشنا في الجزء الأول، طبيعة «النظام العالمي» و الحكامة العالمية. لقد تعلمنا الفرق الحاسم بين النموذج الوستفالي للدول القومية المتساوية ذات السيادة – مثل أعلى أسطوري، و ليس حقيقة واقعة أبدًا – و المحاولات المختلفة لختم نظام عالمي على هذا النموذج.

درسنا على وجه الخصوص، كيف كانت الأمم المتحدة المنظمة الرائدة في تعزيز الحكامة العالمية و كيف يُسهّل ميثاقها التأسيسي مركزية القوة العالمية.

لاحظنا أن الأمم المتحدة مرت بـ «ثورة هادئة» حولتها إلى شراكة عالمية بين القطاعين العام و الخاص (UN-G3P).

شهدنا في الآونة الأخيرة، صعود نظام عالمي متعدد الأقطاب، يقول البعض إنه يعارض هيمنة سلفه أحادي القطب. يبدو أن هذا النموذج الجديد للحكم العالمي ستقوده الحليفتان روسيا و الصين. الدولتان اللتان تترأسان الشراكات المتعددة الأطراف لمجموعة البريكس (البرازيل و روسيا و الهند و الصين و جنوب إفريقيا).

تحالف روسي صيني

يعتمد النظام العالمي متعدد الأقطاب على دور أكثر بروزا لمجموعة العشرين بدلا من مجموعة ال 7. و بالتالي تعزيز مواقف روسيا و الصين كعضوين دائمين في مجلس الأمن الدولي.

لما كان النظام العالمي الأحادي القطب القائم. قد أنشأ نظاما للحكامة العالمية يُمكّن الأوليغارشية المشتركة بين الأمم المتحدة و القطاعين العام و الخاص، من التأثير على جداول الأعمال السياسية للدول القومية في جميع أنحاء العالم، فإن النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب مصمم لتعزيز قوة تلك الأوليغارشية بشكل أكبر – من خلال تحويل نفوذها إلى سيطرة مطلقة.

لا تنظر إلى أبعد من الحكومتين الروسية و الصينية، حيث يكتمل الزواج بين الدولة السياسية و الشركات. و سنتناول هذا الأمر بالتفصيل في الجزء 3.

نسأل: من يريد نظامًا عالميًا متعدد الأقطاب ؟

الجواب المختصر: الجميع.

الجواب الأطول: كل من لديه القوة و النفوذ الكافيين لتغيير الحكامة العالمية.

لا يتم دفع النموذج متعدد الأقطاب فقط من قبل الحكومتين الروسية و الصينية، و أوليغارشيتهما و مراكز الفكر التابعة لهما. بل يتم الترويج له أيضا من قبل “القادة” السابقين للنظام العالمي أحادي القطب.

و لنتأمل الملاحظة التي أدلى بها المستشار الألماني أولاف شولتز. وقد ألقى خطابه، الذي جاء في سياق التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا – الذي ينتقده كل عضو في المؤسسة الغربية أمام الكاميرات – في اجتماع دافوس للمنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2022:

” أرى تطورًا عالميًا آخر يشكل نقطة تحول. نحن نختبر ما يعنيه العيش في عالم متعدد الأقطاب. القطبية الثنائية للحرب الباردة هي جزء من الماضي بقدر ما هي المرحلة القصيرة نسبيًا عندما كانت الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة المتبقية [.] [. . .] السؤال الحاسم هو: كيف يمكننا ضمان أن العالم متعدد الأقطاب سيكون أيضًا عالمًا متعدد الأطراف؟ [. . .] أنا مقتنع بأنه يمكن أن ينجح – إذا اكتشفنا مسارات و مجالات تعاون جديدة. [. . .] إذا لاحظنا أن عالمنا أصبح متعدد الأقطاب، فيجب أن يحفزنا ذلك على: المزيد من تعددية الأطراف! لمزيد من التعاون الدولي!”.

تطلعات البنوك الكبرى

تطلعت البنوك المركزية الغربية أيضًا إلى النموذج متعدد الأقطاب. ففي بنك فرنسا، في مناقشة مائدة مستديرة عام 2011 قالت وزيرة المالية الفرنسية آنذاك كريستين لاغارد، التي أصبحت لاحقًا رئيسة صندوق النقد الدولي (IMF) ثم تم تعيينها رئيسة للبنك المركزي الأوروبي (ECB):

” تتمثل نقطة انطلاقنا في تهيئة الظروف لتحقيق هدفين مترابطين بشكل وثيق. أي النمو القوي المستدام و المتوازن من ناحية. و الانتقال المنظم إلى عالم متعدد الأقطاب من الناحية الاقتصادية والنقدية، من ناحية أخرى”.

في نفس العام، ألقى مارك كارني، محافظ بنك كندا آنذاك، خطابًا أمام نادي أوتاوا الكندي، قال فيه:

  ” نلتقي اليوم في خضم تحول عظيم آخر – تحول يحدث بسرعة أكبر مما يدركه الكثير. لقد عجّلت الأزمة المالية بالتحول في مركز الثقل الاقتصادي العالمي. و تمثل اقتصادات الأسواق الناشئة الآن، ما يقرب من ثلاثة أرباع النمو العالمي. [. . .] الضعف في الاقتصادات المتقدمة و القوة في الاقتصادات الناشئة [. . . ] يحدد التوقعات الاقتصادية العالمية. [. . .] هذا التحول إلى عالم متعدد الأقطاب إيجابي بشكل أساسي، [لكن] أيضا مدمر”.

تسعى الأبناك بشكل كبير للانتقال إلى النظام العالمي الجديد
بنك مونتريال -كندا

لا يزال هناك خطابا ثالثا ألقاه “لورنزو بيني سماغي” سنة 2011. الذي كان يمثل المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوربي، يؤكد على إمكانات النظام العالمي متعدد الأقطاب. و أشار سماغي إلى أن من أجل التحرك نحو النظام العالمي الجديد. هناك حاجة إلى تحول اقتصادي و مالي و سياسي. وأعرب عن أسفه لعدم إحراز تقدم في المجالين المالي و السياسي، و اقترح ما يلي:

” [لدينا] عالم اقتصادي متعدد الأقطاب، و لكن لا يوجد عالم مالي أو سياسي متعدد الأقطاب حتى الآن. [. . .] هل يمكننا تحسين أداء النظام النقدي الدولي ؟ السبيل الأول هو البدء في بناء إطار مؤسسي جديد [.] [هذا] ما يجب تصميمه لهذا العالم الجديد متعدد الأقطاب. [. . .] و ينطوي السبيل الثاني على تنفيذ سياسات تتسق مع الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب أكثر اكتمالا، بجميع أبعاده. [. . .] يتطلب عالم أكثر توازناً متعدد الأقطاب، أيضًا، تكاملاً مالياً و اقتصاديًا أعمق في أوربا [.] [. . .] و بالتالي، من المقرر أن تصبح مجموعة العشرين تجمعًا شاملاً، قادرًا على تكليف مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو مجلس الاستقرار المالي بتفويضات محددة، و لكن أيضًا لتقديم إرشادات حول القضايا الحساسة سياسيًا، بالطريقة التي عملت بها مجموعة السبع في الماضي”.

تطلع سياسي عالمي

إن المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يصف نفسه بأنه المنظمة الدولية للتعاون بين القطاعين العام و الخاص، ما فتئ يدافع لبعض الوقت عن إمكانات النظام العالمي المتعدد الأقطاب.

على سبيل المثال، نشر في عام 2019 مقالا كتبته “نانيت هيشلر فايديرب”، الرئيسة العالمية لاستراتيجية و أبحاث الاستثمار في كريدي سويس Credit Suisse، التي دعت إلى الاستثمار في “الأسواق الناشئة”.

Credit Suisse هو واحد من تسع شركات مصرفية استثمارية عالمية عملاقة تضم مجتمعة Bulge Bracket. و يبرز رأي رئيسها للاستثمار الاستراتيجي على النحو التالي:

” اقتربنا في عام 2018، من العالم المتعدد الأقطاب الذي يبدو أنه سيحل محل النظام الجيوسياسي الثنائي القطب الأمريكي الروسي المنبثق من الحرب الباردة. أدى صعود الصين كمنافس اقتصادي و جيوستراتيجي جاد للولايات المتحدة، و إصرارها المتزايد على برامج مثل “حزام واحد ، طريق واحد” أو “صُنع في الصين 2025″ ، إلى تعزيز نفوذها على الساحة العالمية. [. . .] من وجهة نظر المستثمرين، يجلب العالم متعدد الأقطاب الناشئ حديثًا الأبطال الوطنيين [الشركات في البلدان الكبيرة التي لديها قوة عاملة محلية كبيرة في القطاعات الاستراتيجية] و العلامات التجارية إلى التركيز، بما في ذلك مستهلكي الأسواق الناشئة”.

حتى مجلس العلاقات الخارجية (CFR)، الذي يعتبر أعضاؤه النخبويون مؤيدون متحمسون لتفوق السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الناتو. يقبل الوصول الوشيك للنظام العالمي المتعدد الأقطاب.

كتب ستيوارت إم باتريك، الرفيق البارز في مجلس العلاقات الخارجية الذي حدد النظام القائم على القواعد الدولية (IRBO)، في عام 2021:

” كان النظام الذي يقوده الغرب يسير جنبا إلى جنب قبل مجيء ترامب. أُفسد التوازن من خلال المنافسة الجيوسياسية المتزايدة من الصين و روسيا. ؛ و تقلصت الحصة الجماعية من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بين الدول الأعضاء في منظمة التعاون و التنمية في الميدان الاقتصادي ذات الدخل المرتفع؛ و خُيبت آمال الجمهور إزاء العولمة، لا سيما بعد الأزمة المالية. و لا تزال نقاط الضعف هذه قائمة. [. . .] كما ستسمح قمة cornwall [قمة مجموعة السبع] للمراقبين بقياس التماسك السياسي و الأهمية العالمية لمجموعة السبع في عالم متنوع أيديولوجيًا و متعدد الأقطاب”.

نقطة انعطاف كبرى

مثال أخير: في حديثه في مؤتمر الأعمال بالبيت الأبيض في 21 مارس 2022، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن:

” أعتقد أننا في نقطة انعطاف  في الاقتصاد العالمي [.] [. . .] [يحدث كل ثلاثة من أربعة أجيال. [. . .] الآن هو الوقت الذي تتغير فيه الأمور [.] [سيكون هناك نظام عالمي جديد، و علينا أن نقوده و علينا توحيد بقية العالم الحر للقيام بذلك”.

ماذا يحدث؟ لماذا يقبل مهندسو الهيمنة أحادية القطب بشكل إلزامي أن تحل محلهم التعددية القطبية – و يعرضون المساعدة في إجراء عملية الانتقال؟ لماذا، بغض النظر عن المكان الذي تنظر إليه، حتى في أكثر مراكز الفكر الغربية تشددا، هناك قبول عالمي لظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب؟

يمكنك أن تجادل بأن هذا هو المنظور الواقعي الوحيد.

و مع ذلك، فإن عدم وجود أي مقاومة على الإطلاق يبدو أمرا واضحا. إنه يشير إلى أن هذا التناقض المحير أكثر مما تراه العين. في الواقع، إن هذه التصريحات التي اقتبسناها، تكشف عن مبرر واضح لإنشاء “نظام عالمي جديد”، أكثر من مجرد الإذعان لعالم متعدد الأقطاب”.

 النقطة المهمة هنا تتجلى في ما إذا كان أصحاب القوة العالمية الحاليون يرغبون في الاحتفاظ بالسيطرة. فإن الانتقال إلى النظام العالمي المتعدد الأقطاب أمر مطلوب. إنهم يفهمون أن النظام المتعدد الأقطاب هو الخطوة التالية الضرورية في تطور النظام أحادي القطب.

تحرير “إيان دافيس” و ترجمة “منير علام”

يتبع

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *