متلازمة الفساد و الجهل

عرفت عدة مجتمعات على مر التاريخ وجود حكام فاسدين مستبدين لا يرمقون شعوبهم إلا بعين الاحتقار و الازدراء، و الحالة هذه تخول للمستبد الطاعة و التبعية حتى لا يقض مضجعه و لا ترتعد فرائصه.

و لعل الوسيلة الأنجع لتثبيت جذور الحكم المستبد ترتكز على الفساد، تلك الحالة التي تنقلب فيها المعايير و تختل فيها الموازين، فيصبح حال البلد في كف عفريت، لكن ما الذي يقوي الفساد و يزكي الاستبداد؟

لم يخل أي بلد على مر التاريخ من مفكرين و منظرين تحدثوا عن الجهل كأهم دعائم الاستبداد، حيث إن الفساد يحتاج لمن ينظر و لا يبصر، لمن لا يفكر و لا يتكلم، و لمن يحب الرتابة و يمقت التغيير.

فهذه الخصائص تجعل من الفرد كائنا سلبيا، مطيعا لما يقال له، رافضا لصوت الضمير. و هذا المسار الذي يسير فيه الجاهل يجعله يحطم نفسه نيابة عن حاكمه المستبد، و لعل هذا ما قصده الشاعر :

لا يبلغ الأعداء من جاهل… ما يبلغ الجاهل من نفسه.

فالذي يؤذي نفسه و يتحامل عليها، مشكوك في صحته و رجاحة عقله، و هذا ما جعل ” الصادق النيهوم” يعتبر الجهل مرضا عقليا، إذ يقول، “بدأت الدراسات المعاصرة تشير باطراق إلى أن أمراض الجهل- التي تدعى عادة باسم التخلف الحضاري- لا تختلف في الواقع عن أية أمراض (عقلية) أخرى بل إنها في الغالب لا تقل عنها ضررا أيضا. فالجهل حالة غيبوبة تشبه إلى حد بعيد حالة الخدر الجزئي التي يعايشها المرء عندما يقع تحت طائلة العقار. إنها لا تبدو له غير طبيعية أو خاطئة و لكنها تبدو كذلك لمن يراقبه من النافذة”.¹

فالجاهل إذن كالمخدَّر الذي لا يدرك ما يقول و لا يعي ما يفعل، و حين تريد ثنيه عن ما يقترف لا ينصاع لك و لا يقر أنه على خطأ لأن له أفكارا تؤثث فضاءه و لا يعي مدى نجاعتها، إذ يعتبرها صحيحة و كفى،” فالجاهل ليس دماغا أبيضا ممسوحا لا يضم في داخله سوى الفراغ، بل دماغ مملوء حتى حافته بأشكال خاصة من المعارف الخاطئة التي لا تختلف في طبيعتها النهائية عن طبيعة المرض الجسماني نفسه، أي غير ذات فائدة بالنسبة لحياتنا” ².

و هذا الأمر حين يتكرر مع عدة أفراد نصبح أمام مجتمع من الجاهلين حيث إن “المجتمع الجاهل ليس فقط مجموعة أفراد جاهلين بل مجموعة أفكار غير فعالة و مجموعة حقائق نسبية قد لا تخلو من الزيف، و مجموعة غير محدودة من الأخطاء التي لا تبدو بمثابة أخطاء إلا لمن يراقبها من الخارج” . ³

الصادق النيهوم الكاتب الليبي
الصادق النيهوم

و الفرد الجاهل أو المصاب بمرض الجهل يصعب عليه التخلص من العدوى نظرا لعدة أسباب منها:

  • “1: أن الجهل مرض لا يستطيع المصاب أن يحس أنه مصاب به إلا بقدر ما يحس النائم أنه نائم حقا.
  •  2: أن الجهل منطق ذاتي يأتي من الداخل عن اقتناع كامل يوفر حالة من ( السلام النفسي) التي لا تبدو مزيفة إلا لمن ينظر إليها من الخارج.
  • 3: أن الجهل لا يسبب ألما للمصاب نفسه بقدر ما يسبب آلاما كثيرة لمن يحبونه أو يحيطون به.
  • 4: أن الجهل يحقق رابطة متينة بين الفئات المصابة به بغض النظر عن اختلافاتها الاجتماعية و يرصدها جميعا صفا واحدا ضد الأعداء وراء الجدار، في حالة استعداد دائمة للبدء في القتال.
  • 5: أن الجهل لا يمكن علاجه من الخارج تحت أية ظروف، لأن أول مشاكل المريض أنه لا يعترف بوجود شيء مجد في الخارج”.⁴
صورة غلاف كتاب الصادق النيهوم: "تحية طيبة و بعد".
صورة غلاف كتاب الصادق النيهوم: “تحية طيبة و بعد”.

إذن تبدو قضية الجاهل مستعصية على الحل لأنه يحمل العدو داخله و لا يدري ذلك.

و مما يزيد الطين بلة أن الحاكم المستبد يزكي هذا الوضع و يجعل منه” الحالة الاعتيادية “، لأن التشابه في المرض يسهل الأمر على الطبيب الذي في غالب الأحيان يبحث عن سبل الإبقاء على المرض لكي ينتفع منه، كما أن هذا يجعل الفرد يألف واقعه لأن ” أهم تغيير تنتجه سيطرة حكومية ممتدة، هو تغيير نفسي، تغيير في شخصية الشعب، و هذه،بالضرورة، مسألة بطيئة عملية لا تمتد عبر سنوات فحسب، بل ربما عبر جيل أو جيلين”. 5

إن التغيير البطيء يركز على الأفكار و الأذواق و المشاعر بهدف صياغتها و قولبتها في شكل واحد موحد، لأن الاختلاف يخلق الإبداع و هذا يشكل العدو الرئيسي للمستبد، حيث” كلما أصبح تعليم و ذكاء الأفراد أكثر ارتفاعا، زاد اختلاف آرائهم و أذواقهم، و قل احتمال اتفاقهم على نظام هرمي معين للقيم، و يترتب عن ذلك أننا إذا أردنا العثور على درجة أعلى من التطابق و التماثل في وجهات النظر، فإن علينا أن ننزل إلى مناطق من معايير أخلاقية و عقلية أدنى، حيث تنتشر الغرائز و الأذواق الأكثر بدائية و “شيوعا”، و لا يعني ذلك، أن أغلب الأشخاص لديهم معايير أخلاقية أدنى، بل يعني فقط أن أكبر مجموعة من الأشخاص الذين تكون قيمهم متماثلة للغاية، هم الأشخاص ذوو المستويات الأدنى، إنهم القاسم المشترك الأدنى إذا جاز هذا التعبير الذي يوحد العدد الأكبر من الأشخاص”.6

فعملية الانصهار في إطار واحد تعطي أفرادا متشابهين و لا يدركون أنهم كذلك، حيث إن المستبد” سيكون قادرا على الحصول على تأييد كل الأشخاص المطيعين و الساذجين، الذين ليست لديهم أية عقائد قوية خاصة، و لكنهم مستعدون لقبول أي نظام جاهز للقيم إذا استمر الدوي على آذانهم بصوت عال و متكرر إلى حد كاف، فهؤلاء هم الذين سوف يكونون أولئك الذين من السهل التحكم في أفكارهم المبهمة التي تشكلت بصورة غير كاملة” 7

فهذا الانصهار و التشابه يوحد العقائد و الأفكار و يسهل على الحاكم رسم مسار شعبه حتى يسلكه دون أي اعتراض، ذلك “أن الأغلبية العظمى- في أغلب الأحيان- نادرا ما يكونون قادرين على التفكير بشكل مستقل، و أنهم يقبلون آراء حول أغلب المسائل، يجدونها جاهزة، و أنهم سوف يكونون راضين بالمثل إذا ولدوا أو استدرجوا إلى مجموعة أخرى من المعتقدات”.8

فالجهل إذن مرض لا يختلف عن باقي الأمراض، و إذا كانت الأمراض العضوية سهلة التشخيص و غير عسيرة على العلاج، فإن هذا المرض مختلف كليا نظرا لخطورته الجسيمة و آثاره الوخيمة على حامله و على المحيط الذي يعيش فيه.

صورة عنوان كتاب فريديرك. أ. هايك: الطريق إلى العبودية.
الطريق إلى العبودية: فريديرك.أ. هايك

و من ضمن الروابط التي تقوي المجتمع و الدولة معا تتجلى في القيم و الأخلاق و التي بدأت تنهار بشكل سريع، نظرا لتعدد الوسائط التي تتوالى على عقل مستعمليها، فنحن نعيش زمنا سائلا كما أقر بذلك “زيگموند باومان” ، حيث لا شيء يستقر على حاله، و ما أن تظهر قضية حتى تُنسى بقضية أخرى أفظع منها، و يصب الإعلام الموجَّه الزيت على النار، فتزداد لهيبا وسط كومة من القش.

فنحن في زمن شهواته أنهار جارفة و مادياته أبحر هائجة، و اغتر الإنسان و نسي نفسه و التصق بالأرض. القليل من يبحث عن التغيير، و القليل أيضا من يفكر في سبل النجاة.

و إذا كان الجهل ينتج نسخا بشرية متشابهة، فإن التفكر ينتج أشخاصا مختلفين قادرين على الإدراك، حيث “إن هذا التفاعل بين أفراد يمتلكون معرفة مختلفة و آراء مختلفة، هو ما يشكل حياة الفكر. و نمو العقل هو عملية اجتماعية تقوم على وجود مثل هذه الاختلافات”. 9

و من المعلوم أن التغيير و تفعيل الاختلاف يتطلب صبرا و قوة و عملا و اجتهادا، و لا يمكن أن يحدث بين عشية و ضحاها أو بشكل معجز، فالأفكار هي التي تغير الواقع و هي التي تأتي بالجديد، و التعقل و التفكر كفيل ببناء صرح متين يشارف المستقبل و لا يكسر جسر الماضي بل يجعله قاعدة يقوي بها أعمدة الصرح  الحضاري.


قائمة المراجع:
¹: تحية طيبة و بعد، الصادق النيهوم، تالة للطباعة و النشر طرابلس، ص 39.
²: تحية طيبة و بعد، الصادق النيهوم، مرجع سابق، ص 54.
³: تحية طيبة و بعد، مرجع سابق، ص 58.
⁴: تحية طيبة و بعد، مرجع سابق، ص 40-41.
5: الطريق إلى العبودية، فريديرك. أ. هايك، دار الشروق، ترجمة محمد مصطفى غنيم، ص 18.
6: الطريق إلى العبودية، فريديرك. أ. هايك، مرجع سابق، ص 140.
7: الطريق إلى العبودية، مرجع سابق، ص 140.
8: الطريق إلى العبودية، مرجع سابق، ص 161.
9: الطريق إلى العبودية، مرجع سابق، ص 162.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *