حملت عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عدة أحداث، شكلت صدمة لكل متتبعي الشأن السياسي العالمي. حيث دعا إلى ضم كندا إلى أمريكا، حتى تكون بلاد الكيبك الولاية 51، كما عبر عن رغبته في ضم جزيرة غرينلاند إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كما كان قد دعا في ولايته الأولى سنة 2017 إلى نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. و الآن في 2025، يريد تحقيق الحلم التلمودي، و يسعى جادا من أجل إفراغ فلسطين من أهلها و تعويضهم باليهود و الصهاينة من مختلف دول العالم. ف ترامب بفعله هذا يشبه الملك قورش الأول الذي أعاد اليهود إلى أورشليم بعد أن طردهم منها نبوخذ نصر. ف”قورش الأشقر” هذا، يحظى بتقدير كبير من قبل الصهاينة الذين دعموه بالمال و دافعوا عنه، و الآن عليه إرضاؤهم.
الدولة العبرية تحظى بحماية خاصة
لقد ترعرعت فكرة الدولة العبرية في كنف الإمبراطورية البريطانية التي فعلت المستحيل من أجل تحقيق حلم الصهاينة. حيث سعت جاهدة لإسقاط الإمبراطورية العثمانية والاستيلاء بعد ذلك على المشرق العربي بإخضاعه للانتداب. وحين صالت و جالت في المشرق العربي، منحت فلسطين على طبق من ذهب لأحفاد تيودور هيرتزل.
و حين أفل نجم البريطانيين، سطعت شمس الأمريكيين الذين حملوا على عاتقهم رعاية الفتاة المدللة- إسرائيل. فقد دافعوا عنها بالمال و السلاح و الدبلوماسية و بكل ما أوتوا من قوة. فكل رئيس يأتي يجب أن يزور إسرائيل لكي يأخذ الدعم و يتعهد بالدفاع عن تل أبيب.
لا يقتصر حلم التلموديين على فلسطين فحسب، بل يسعون جاهدين لتنزيل مخططهم القديم “من النيل إلى الفرات”. ولأجل ذلك ضَعَّفوا دول المشرق العربي القريبة من فلسطين، فقد خربوا العراق، و دمروا سوريا، و يواصلون جهودهم لتفكيك ما تبقى من الدول، الأردن، لبنان، مصر و المملكة العربية السعودية. وإضعافهم لدول الشرق الأوسط تم بأيادي وكلائهم و لا زال كذلك. حيث فوضوا لإيران تفكيك العراق وسوريا، والآن منحوا الضوء الأخضر لأردوغان من أجل تسهيل الاستيلاء على سوريا.
لقد أبانت حرب طوفان الأقصى عن نية إسرائيل في إفراغ غزة من سكانها قصد إنشاء قناة بن غوريون. لكنها لم تنجح بفعل المقاومة الشرسة التي تلقتها من جنود حركة حماس، والتي أجبرت نتنياهو على النزول لطاولة المفاوضات. لكن ما لم يحصل نتنياهو عليه بالحرب يريد “قورش الأشقر” تحقيقه تحت التهديد.
مشروع قناة بن غوريون
ظهر مشروع قناة بن غوريون سنة 1960, و هو اقتراح قدمته إسرائيل من أجل “ربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط عبر الجزء الجنوبي لخليج العقبة. تم التخطيط للمسار عبر مدينة إيلات الساحلية والحدود الأردنية، عبر وادي عربة لمسافة حوالي 100 كيلومتر بين جبال النقب والمرتفعات الأردنية وينحرف غربًا قبل حوض البحر الميت، ويتجه عبر وادٍ في سلسلة جبال النقب. ثم يتجه شمالًا مرة أخرى للالتفاف حول قطاع غزة و الاتصال بالبحر الأبيض المتوسط”.

لقد حمل مشروع قناة بن غوريون رغبة شديدة في القضاء على قناة السويس التي تعتبر ممرا استراتيجيا يربط آسيا بأوربا. فإسرائيل لا تريد الاستمرار كدولة تابعة لأمريكا تعيش تحت حمايتها، بل تسعى بكل ما أوتيت من قوة لكي تتحول إلى إمبراطورية شرق أوسطية تربط الشرق بالغرب. و لهذا وقف نتنياهو في عز حرب طوفان الأقصى في الأمم المتحدة مدافعا عن هذه الغاية. فقد حمل في يده خريطتين إحداهما باللون الأخضر تحمل خريطة إسرائيل و فيها ممر يربط الشرق بالغرب و قد أطلق عليها لقب النعمة، بينما خريطة إيران باللون الأسود و قد أسماها النقمة. و من بين ما ورد في خطابه ما يلي:
خريطة النعمة: تُظهر إسرائيل و شركائها من العرب، و تشكل جسرا بريا يربط آسيا بأوربا، بين المحيط الهندي و البحر الأبيض المتوسط، عبر هذا الجسر ستمد خطوط السكك الحديدية وخطوط أنابيب الطاقة وكابلات الألياف الضوئية، وهذا من شأنه أن يخدم حياة ملياري شخص.
خريطة النقمة: إنها خريطة تبين محور الرعب الذي أنشأته إيران و فرضته بين المحيط الهندي و البحر الأبيض المتوسط. وقد تسبب المحور الإيراني الخبيث في إغلاق الممرات المائية الدولية، و قطع التجارة، و تدمير الدول من الداخل، وإلحاق البؤس بملايين البشر.
ففي خطابه هذا اعتبر نتنياهو أن ما ستقوم به إسرائيل نعمة مشرقة ومستقبل مليء بالأمل، بينما ما تفعله إيران ذو مستقبل مظلم مليء باليأس”.
خطوات بناء إسرائيل الكبرى
في طريقها لتحقيق الحلم التلمودي من النيل إلى الفرات وبدعم من قورش الأشقر، تتبع إسرائيل عدة خطوات:
أولا: الإخضاع الكامل لجميع دول شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك مصر. تعمل إسرائيل على تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة والسودان والمغرب. بينما تقصف غزة ولبنان وسوريا واليمن وإيران.
ثانيا: إن توسيع حدود إسرائيل (مشروع إسرائيل الكبرى) من شأنه أن يوفر حدوداً طبيعية لتوفير الأمن، وخاصة نهري النيل والفرات. وضم غزة يمثل الخطوة الأولى نحو تأمين هذا الهدف.
ثالثا: ربط موانئ البحر الأبيض المتوسط بمبادرة الحزام والطريق الصينية، إلى جانب مشاريع البنية التحتية الكبرى الأخرى بما في ذلك قناة بن غوريون، والسكك الحديدية عالية السرعة من تل أبيب إلى القدس، و228 مشروعًا آخر تم تقديمها في برنامج الحكومة الإسرائيلية المتعدد السنوات لمشاريع البنية التحتية والتنمية للأعوام 2020-2024.
رابعا: التطهير العرقي لجميع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. وقد بدأ هذا على قدم وساق مع الإعلان الأخير لترامب الذي حدد خططًا لإخلاء غزة ونقل 1.7 مليون شخص إلى بلدان أخرى.
خامسا: تحقيق نبوءات نهاية الزمان من أجل استرضاء اليهودية والمسيحية والإسلام والسيطرة عليهم.

على الرغم من ورود أخبار تقول بأن أمريكا وإسرائيل تريدان إنشاء “الممرالاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوربا” من أجل تقويض فرص وصول الصين إلى القارة الأوربية. فالهند عضو رسمي في “مجمع بريكس” و تشكل إلى جانب الصين و روسيا حلفا قويا. إذن، هل ستنقلب الهند على الصين و تنسحب من بريكس؟ أم ستصادق أمريكا و تبقى متحالفة مع الصين؟
توافق صيني إسرائيلي
إن مبادرة الحزام والطريق الصينية تتماشى تماما مع خطط إسرائيل الرامية لتوسيع الإمبراطورية. ففي تقرير ”فهم مبادرة الحزام والطريق وتأثيرها في إسرائيل“الذي نشر في الخامس نونبر 2024، ورد ما يلي:
"... الموقف الحالي للحكومة الإسرائيلية ... يتماشى تمامًا مع مبادرة الحزام والطريق (BRI). من منظور جغرافي، تقع إسرائيل في موقع استراتيجي عند تقاطع ثلاث قارات: أوربا و آسيا و إفريقيا، وموقعها على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إلى جانب حقيقة أنها تشكل الرابط البري الوحيد لإفريقيا بأوربا و آسيا، يجعلها المرشح الرئيسي للتنفيذ الناجح لمبادرة الحزام و الطريق. لقد أدركت الحكومة الصينية بوضوح الإمكانات الموجودة في إسرائيل لتكون بمثابة قناة حيوية للترويج لمبادرة الحزام والطريق وإحياء طريق التجارة التاريخي "طريق الحرير" الذي يربط الصين بالغرب - سواء عبر البر أو البحر - وبالتالي اختارت الاستثمار في مشاريع متعددة للحزام والطريق في إسرائيل".
ويواصل نفس التقرير إلقاء المزيد من الضوء على دور الشركات الصينية التي تشارك:
"بشكل فعال في مشاريع البنية التحتية الإسرائيلية. تتخصص هذه الشركات في تخطيط و بناء و تنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبرى. مع التركيز على مشاريع مبادرة الحزام والطريق مثل الموانئ والسكك الحديدية والسكك الحديدية الخفيفة والترام والمترو والأنفاق. وبفضل خبرتها الفريدة ومهاراتها المكتسبة من تنفيذ مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق بنجاح في جميع أنحاء الصين والعالم، تحتل هذه الشركات مكانة بارزة في قطاع النقل فيما يتعلق بالمشاريع الضخمة التي يتم تنفيذها حاليًا في إسرائيل".
نظام حكم تقوده إسرائيل
فإسرائيل التي تريد بناء إمبراطوريتها في المستقبل، تعلم جيدا أن لكل إمبراطورية أفول. وتعمل جاهدة على إيجاد موطئ قدم لها في إطار التحولات العالمية. وكما يعلم الجميع، فقد عرف التاريخ عدة أنظمة منها:
Pax Romana: نظام حكم دام أكثر من 200 سنة شهد توسع الإمبراطورية الرومانية.
Pax Britannica: نظام حكم الإمبراطورية البريطانية التي حملت لقب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. حيث سادت العالم خلال القرن 19 و كانت الحرب العالمية الأولى سببا في تراجعها.
Pax Americana: نظام الحكم الذي تزعمته أمريكا منذ سنة 1945. و الذي بات يعيش أيامه الأخيرة نظرا للمنافسة القوية التي يتعرض لها من طرف الصين.
pax sinica: نظام الحكم الذي ستقيمه الصين بعد قيادتها العالم.
فكما كانت بريطانيا و أمريكا ترعيان إسرائيل، ستقوم الصين بذلك أيضا. من خلال تعبيد الطريق أمام إسرائيل لقيادة العالم في المستقبل.
من أجل ذلك، تسعى إسرائيل منذ زمن بعيد لحكم العالم من القدس، وحينها ستقيم نظام حكم pax judaica تسود به العالم.
فالصراع القائم الآن في فلسطين حول غزة يشكل محور الهيمنة العالمية بين الصين وأمريكا. وإسرائيل تريد أن تبقى محور الاهتمام من كلا الطرفين. وتريد الاستمرار في بناء إمبراطوريتها لأنها
"أصبحت بالفعل قوية في مجال تقنيات السيارات و الروبوتات و الأمن السيبراني. و تطمح لأن تكون الدولة المركزية في مملكة الألفية. ومن المتوقع أن تلعب الشركات التكنولوجية الناشئة في البلاد دورًا رئيسيًا في “الثورة الصناعية الرابعة”. إن تعزيز علاقتها المتطورة مع الصين وسط الأزمة الروسية الأوكرانية، يمكن أن يساعد في دفع إسرائيل إلى هيمنة إقليمية بامتياز. مع حصة كبيرة من القوة الاقتصادية و التكنولوجية المركزية التي تجتمع في القدس. بينما تشرع إسرائيل في بذل جهود لتنويع أسواق صادراتها و استثماراتها بعيدًا عن الولايات المتحدة، فإن ذلك يطرح سؤالًا مهمًا. هل إسرائيل في المراحل التكوينية الأولى من الاستعانة بمصادر خارجية لمصالحها الأمنية بعيدًا عن الولايات المتحدة و وضع رهاناتها على المحور الصيني الروسي؟
صراع حتى النهاية
فإسرائيل تريد التوسع في المشرق العربي من خلال طرد الفلسطينيين من بلادهم، و تفكيك الدول العربية المحيطة بها. لكي تكون هي المهيمنة وكل الدول العربية أتباع. فهي تعمل من أجل تحقيق استراتيجية بعيدة المدى من خلال:
” تحويل تل أبيب إلى عاصمة سياحية ومصرفية في الشرق الأوسط. بل و في علاقات هذه المنطقة بالقارات الثلاث.[إفريقيا- آسيا- أوربا] العاصمة السياحية تعني ربط تل أبيب بالعالم القديم من خلال أربعة خطوط حديدية. إحداها يتجه إلى طهران عبر بغداد، والثاني يخترق صحراء سيناء ليصل إلى الرباط على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط الإفريقي. و الثالث يدور حول البحر الأحمر مخترقا شبه الجزيرة العربية شرقا، و حوض وادي النيل غربا. لتجتمع هذه الروافد الثلاثة في تل أبيب. ليصعد منها خط رابع إلى أوربا عبر استانبول و ليعيد إلى الحياة في صورة أكثر عصرية قطار الشرق القديم. المهم أنه في هذا التصور تصير تل أبيب و قد أضحت العاصمة العالمية للسياحة التقليدية في دول القارات الثلاث القديمة. و هكذا تتعانق النواحي الاقتصادية بالأبعاد العسكرية و كلاهما يجتمعان في توظيف إقليمي لصالح النفوذ الدولي. و في توظيف دولي لصالح التوسع الإقليمي لدولة إسرائيل“.(حامد ربيع، مصر و الحرب القادمة).
لقد شاهد العالم لمدة فاقت سنة، حجم العمليات العسكرية القاسية التي سلطها الجيش الإسرائيلي ضد أهالي غزة. ورغم ذلك لم يرضخ الغزيين لضغوطات الحرب ولم يهجروا بلادهم. ومنذ تولي ترامب الرئاسة بدأ يفكر في تهجير سكان غزة إلى البلدان المجاورة. لكن هل فشل إسرائيل في إخراج الفلسطينين بقوة السلاح يمكن أن ينجح فيه قورش الأشقر بغير الحرب؟
إن الصراع بين الخير والشر لن ينتهي ما دام الإنسان على قيد الحياة. لذلك، الحرب في فلسطين لن تتوقف، ولن تنطفئ جذوة الاصطدام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. والانتصار الذي حققه جنود حركة حماس أبان عن حقيقة مفادها أن الانتصار على إسرائيل و من يدعمها ليس مستحيلا، بل ممكن، فقط يحتاج إيمانا و عزما و استعدادا و إصرارا.