تتماشى فكرة بوتين عن «التكامل الأوراسي» مع الأيديولوجية الصينية «تيان شيا Tianxia »، و التي يمكن ترجمتها على أنها «كل شيء تحت السماء». في العصور الصينية القديمة، وضعت “تيان شيا Tianxia الإمبراطورية في ذروة التسلسل الهرمي الأخلاقي العالمي. تملي الرعاية الكونفوشيوسية الشاملة أن الدولة المتحضرة تهتم بنفسها، أولاً و قبل كل شيء، و لكن لا يمكنها اعتبار نفسها متحضرة إذا لم تهتم بالآخرين أيضًا.

تعتبر الدول الأخرى متحضرة إذا كانت تهتم بمواطنيها و بربرية إذا لم تفعل ذلك. لذلك، يجب على جميع الدول المتحضرة أن تهتم بمصالح الدول الأخرى المسالمة و المتحضرة أكثر مما تهتم باحتياجات أو رغبات الدول الهمجية. و بالتالي، تتشكل الروابط بشكل طبيعي بين الدول المهتمة، مما يخلق نوعًا من النظام الجيوسياسي العضوي، حيث تضع كل دولة شعبها في قلب شبكة من العلاقات المتحضرة.

في “تيان شيا“، تعمل ممارسة الرعاية الكونفوشيوسية الشاملة أيضا داخل جميع المؤسسات التي تشكل الدولة. على سبيل المثال، يهتم الأفراد المتحضرون بشكل طبيعي بأسرهم و مجتمعاتهم المباشرة أكثر من اهتمامهم بالأشخاص خارج تلك الدوائر. و مع ذلك، لا ينبغي لأحد أن يتصرف بأنانية على حساب المواطنين الآخرين، بغض النظر عن مكان إقامتهم، دون الوقوع في الهمجية بأنفسهم. هذا نموذج للدولة لا يقوم على الروابط العرقية أو “الدموية” أو حتى الحدود الوطنية، بل على نظام هرمي للأخلاق.

تم الترويج لـ “تيان شيا Tianxia”  من قبل عدد قليل من المعلقين الغربيين على أنها فكرة «جميلة». مثل مجموعة “ماندلبروت” الفلسفية، التي تقترح تناسقًا أخلاقيًا مثاليًا على المستويين الجزئي و الكلي. لذلك، فالنظام العالمي المتعدد الأقطاب، الذي يُفترض أن “تيان شيا” تقع في صميمه، يُنصح به باعتباره نموذجًا جديدًا رائعًا للحكامة العالمية، و كثيرًا ما يوصف بأنه «تعاون رابح رابح».

تيان شيا مثل الأوراسية

قال أكاديميون مثل الأستاذين “تشاو تينغ يانغ” و “شيانغ لانكسين” إن التبني العالمي ل “تيان شيا” من شأنه أن يؤسس “لعالم ما بعد وستفاليا”. ينبع هذا الرأي من تقييمهم بأن نظام وستفاليا راكد أيديولوجيا، و لا يقتصر على أكثر من نظام توازن القوى الملائم حيث “القوة على حق”.

إن الانتقادات التي وجهها هؤلاء العلماء التيانشيون ليست انعكاسا عادلا للمبادئ الأخلاقية التي عبر عنها سلام وستفاليا – المعاهدات التي أشادت بالقيم المسيحية للغفران و التسامح و التعاون السلمي. و مع ذلك، فإن تقييم العلماء هو تقييم معقول للسلوك الفعلي للدول الغربية، التي تتظاهر فقط باحترام مبادئ وستفاليا.

يشير البروفيسور “لانكسين” إلى أن الصين «ليس لديها تقليد أنطولوجي». أي أن “تيان شيا  Tianxia” الفلسفية لا تسأل «ما هذا ؟». بل «ما هو المسار الذي يوحي به هذا ؟» إذا تم تطبيق “تيان شيا Tianxia”  على السياسة الخارجية الاستراتيجية للصين، فسيكون ذلك متناقضًا مع أفكار مثل السيادة الوطنية.

يشبه إلى حد كبير الأسس الأخلاقية للعلاقات الدولية الوستفالية، يتم الإعلان عن “تيان شيا” و لكن لا يتم ممارستها. حاليًا، على سبيل المثال. تقوم الصين بتسليح نظامي الإمارات العربية المتحدة و السعودية لشن حرب في اليمن، و تسرق أيضًا موارد اليمن الطبيعية. هل هذه “تيان شيا” ؟ أين هو «الفوز» للشعب اليمني في سلوك الصين؟ 

عيب الأفكار النبيلة أنها يمكن استغلالها من قبل الجيوستراتيجيين المتشددين لبيع أي أجندة سياسية يحبونها. توفر نظريات “تيان شيا” و “الأوراسية” أساسًا لتعدد الأقطاب. الفلسفة ليست هي المشكلة، بل المشكلة في استغلالها من قبل مهندسي الحكامة العالمية المتعددة الأقطاب.

إنهم لا يهتمون بالغرض من الفكرة. إنهم يهتمون فقط بكيفية استخدام تلك الأيديولوجية أو الفلسفة لتبرير أفعالهم، إذا سأل أي شخص. إذا اقترح الفكر الفلسفي بعض الاستراتيجيات المفيدة، فهذا أفضل.

عندما يكون الهدف هو الحكامة العالمية على نظام متعدد الأقطاب، فإن “تيان شيا Tianxia” ، مثل الأوراسية، هي بالتأكيد «جميلة».

باكس سينيكا يعوض باكس أمريكانا

تأمل في كلمات البروفيسور “زو”: [البعض] قلق من أن “تيان شيا” ستؤدي إلى حلول “باكس سينيكا” محل “باكس أمريكانا”. ومع ذلك، فإن هذا القلق في غير محله، لأن في ظل تيان شيا، لن يكون هناك مكان للملك – النظام نفسه هو الملك. و بهذا المعنى، سيكون الأمر مشابها إلى حد ما بسويسرا. حيث تتعايش مجموعات لغوية مختلفة (الفرنسية والألمانية و الإيطالية و الرومانشية) و الكانتونات المحلية في كومنولث من أجزاء متساوية تقريبا. حيث يكون المركز في برن، و هو في الأساس نقطة تنسيق مع رئيس مناوب تكون سلطته مقيدة. لدرجة أن بعض المواطنين السويسريين لا يستطيعون حتى تسمية الشخص الذي يشغل المنصب”.

تحيل “تيان شيا” الصوت السياسي للشعب إلى مكان غير ذي صلة. إنها متعددة الأقطاب. تحدد القوة السياسية كنظام شبكي لا تقيده السيادة الوطنية، أو سلطة أحادية القطب، بل يدير مراكز قوة “مقيدة”. بالنسبة لأولئك الذين يتلاعبون بالجغرافيا السياسية سرًا، فهو مثالي: النظام نفسه ملك.

قد تكون “تيان شيا” فلسفة هادئة، و لكن ما يهم حقا هو كيفية تطبيق النظرية على السياسة. إن المنشور المعتمد لعام 2017 بعنوان “المضي قدما” تحت إشراف فكر الأمين العام ل”شي جين بينغ” حول دبلوماسية” وزير الخارجية الصيني “وانغ يي”، يعطينا لمحة عن نوع الشيء الذي تسميه الطبقة السياسية الصينية و غيرها، “تعاون رابح رابح”.

الصين تنفذ أجندة 2030

 ” يطرح شي جين بينغ [.] مقترحات جديدة حول الأمن و التنمية و الحكامة العالمية. [. . .] شدد شي جين بينغ [.] على دور الصين و إسهامها في السلام و التنمية العالميين و في دعم النظام الدولي. [. . .] لعبت الصين […] دورًا رائدًا في التعاون في آسيا و المحيط الهادئ، و تحوّل مجموعة العشرين و مسار العولمة الاقتصادية [.][. . .] شجعت الصين إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية و صندوق طريق الحرير و مصرف التنمية الجديد لمجموعة بريكس. واضطلعت بدور محوري في صياغة القواعد التي تحكم مجالات ناشئة مثل، الشؤون البحرية و القطبية و الفضاء الإلكتروني و الأمن النووي و تغير المناخ. [. . .] تمت الإشادة بمبادرة [الحزام و الطريق] على نطاق واسع لإعطاء زخم للنمو العالمي و تعزيز الثقة في العولمة الاقتصادية. [. . . ].

لقد قمنا بدور حيوي [.] و عملنا مع دول أخرى لمواجهة التحديات العالمية، مثل الإرهاب و تغير المناخ و الأمن السيبراني، و اللاجئين. [. . .] لقد دعونا إلى صياغة خطة التنمية المستدامة لعام 2030، و أصبحنا أول بلد يطلق تنفيذ خطته الوطنية”.

اتضح أن التطبيق المزعوم ل”تيان شيا”، يعني دعم النظام الدولي، و إصلاح النظام المالي و النقدي الدولي، و أجندة 2030، و مكافحة الإرهاب، و السيطرة على رأس المال البشري، و ممارسة الأمن السيبراني العالمي، و العولمة الاقتصادية، و بالطبع الحكامة العالمية.

يبدو أن «أفكار» شي جين بينغ المستوحاة من “تيان شيا Tianxia “، هي نفسها أفكار روكفلر و فلاديمير بوتين و كلاوس شواب، و جميع الأعضاء الآخرين في فريق المبيعات المتعدد الأقطاب.

تأليف إيان دافيس / ترجمة منير علام

يتبع…

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *