تطور الوضع السياسي في إيران

عرف الوضع السياسي في إيران منذ خمسينيات القرن العشرين عدة تطورات بدأت مع انتخاب محمد مصدق رئيسا للوزراء سنة 1951 الذي كان زعيما قوميا يهدف خدمة بلاده و يريد أن تبقى ثروات البلاد في أيدي أصحابها. حيث قال في كلمته التي ألقاها بعد حصوله على رئاسة الوزراء:. ” لم نتوصل إلى أي نتائج مع الدول الأجنبية بعد سنوات طويلة من المفاوضات… فعائدات النفط تمكننا من تحقيق كامل الميزانية و أن نكافح الفقر و المرض و التخلف. هناك اعتبار آخر مهم هو أنه عندما نقضي على قوة تلك الشركة البريطانية. فإننا نقضي على الفساد و التآمر التي تأثرت بسببها شؤون بلدنا الداخلية. فعندما نوقف تلك الوصاية نهائيا فإن إيران تكون قد حققت استقلالها الاقتصادي و السياسي”.

 و مباشرة بعد استلامه السلطة أقدم على تأميم شركات النفط خاصة شركة النفط الأنكلو-إيرانية. حيث إن الشروط التي كانت تعمل بها هذه الشركات غير عادلة و غير مقبولة. فشركة النفط الأنكلو-إيرانية مثلا كانت تدفع من الضرائب لبريطانيا أكثر ما تدفعه لإيران.

التخطيط للانقلاب

 بدأ اهتمام أمريكا بالموضوع نظرا لأهمية النفط. كما أن تفكير مصدق في عملية التأميم يعني وجود علاقة خفية مع الاتحاد السوفياتي، الذي يمكن أن يتدخل لصالح نظام مصدق. و لبتر هذه العلاقة و خوفا من تنامي قوة الاتحاد السوفياتي، قررت الولايات المتحدة الأمريكية مع بريطانيا الإطاحة بنظام مصدق. 

و تم الاتفاق مع الشاه لكي يصبح زعيما للبلاد بعد الانقلاب. لكن الأمور لم تسر كما يجب، حيث تمكن مصدق من الإمساك بمبعوث الشاه، و قامت عدة مظاهرات في البلاد. و على إثرها غادر الشاه صوب العراق و اجتمع سرا مع السفير الأمريكي و منها توجه إلى روما. 

و مباشرة بعد لقاء الشاه السري مع السفير الأمريكي وقع أمر عجيب. فالذين كانوا يتظاهرون ضد الشاه صاروا ينادون باسمه، و هذا التحول انطلق من الجيش الذي نزلت بعض عناصره للشارع قصد التظاهر ضد نظام مصدق و تأييدا للشاه. و قد لعب كيرميث روزفيلت،( فوضته وكالة المخابرات المركزية للتأثير على سير الأحداث في إيران. و الذي بدأت معه استراتيجية القتل الاقتصادي) دورا كبيرا في هذا التحول. حيث حرض حفنة من الأشخاص و دعاهم للتنديد بحكم نظام مصدق. و هذا الفعل لعب دورا محوريا في الإطاحة بنظام مصدق. و بعد نجاح الخطة، تم إخبار الشاه بذلك و رجع إلى البلاد و تولى الرئاسة .

الملاحظ أن هذا التحول في المواقف و سياسة قلب الطاولة على الأحلاف و التخلص منهم. لعبة تعزف عليها الولايات المتحدة الأمريكية عبر وكالة الاستخبارات المركزية التي لعبت دورا كبيرا في تغيير اللعبة السياسية في إيران. 

الرئيس الإيراني محمد رضا بهلوي مع الرئيس الأمريكي إيزنهاور

إحداث نظام جديد

و لم تدم فترة حكم الشاه طويلا، حتى اندلعت عدة مظاهرات سنة 1979 منددة بحكم الشاه. حيث اعتبره الثوريون قائدا طاغية و حاكما فاسقا و اعتبروه فقط دمية في يد الحكام الأمريكيين. و رغم أن الولايات المتحدة هي التي ناصرته عندما تولى الحكم بعد مصدق، فلم تقدم له أي نصرة أو دعم هذه المرة بل رفضت حتى استقباله عندها كلاجئ. و استدعاه الملك الحسن الثاني للرباط، و لم تدم إقامته فيها مدة طويلة. حيث كان في وضعية صحية حرجة، و عندما رأته الولايات المتحدة في تلك الحالة، سمحت له بدخول بلادها قصد العلاج. و بعد انتهاء فترة علاجه توجه إلى بنما و منها إلى مصر حيث وافته المنية بها سنة 1980.

# إن من يقبل أن يكون لعبة و دمية في يد من يحركه، يحق له هذا المسار الذليل، فاللاعب الأمريكي يتقن التمريرات الهادفة و لا يراعي مصلحة أي كان، فمصالحه فوق كل اعتبار.#

و بعد اندلاع الثورة الإيرانية برز التيار الإسلامي كلاعب أساسي بزعامة خامنئي، الذي أعلن شعار الموت لأمريكا و أنها مع إسرائيل يمثلان الشيطان الأكبر، لكن شتان بين الشعارات و الواقع، فسنة 1979 عرفت اجتياح الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، و هو أمر لم تحبذه الولايات المتحدة الأمريكية، فقدمت الدعم لتنظيم القاعدة قصد محاربة الاتحاد السوفياتي، و هذه الحرب كانت من الحروب الأخيرة التي خاضها الاتحاد السوفياتي و التي كان لها دور كبير في الإجهاز عليه و انهياره.

فعقد الثمانينيات عرف تبلور التيار الإسلامي في أفغانسان و في إيران، لأن المخطط كان يركز على نقل الحرب إلى الشرق الأوسط على أساس طائفي و ديني، لذلك كان لابد من تقديم الدعم اللازم للتيار الإسلامي في إيران لأنه سيلعب دورا كبيرا في المنطقة، و إذا كان العراق حلقة صعبة أمام إيران فقد تم إضعافه خلال حروب الخليج و لاحقا تم تقديمه على طبق من ذهب لإيران.

صفقة القرن

إن سيطرة إيران على المنطقة لا تعني أنها لاعب قوي، بل هي فقط ترعى مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، و تنفذ أجندات الحرب الدينية بين السنة و الشيعة، و من أجل تسهيل الأمر على إسرائيل على إنجاز مشروع إسرائيل الكبرى.

 و إيران إلى عهد قريب، كانت تعتبر حليفا قويا للولايات المتحدة و ساهمت في تخريب المنطقة، لكن ما قامت به مع جيرانها سينعكس عليها، لأن إسرائيل الكبرى لا تريد منافسين بل تريد فقط أتباع مطيعين مخلصين.

و الآن بدأنا نلاحظ تصاعد التوتر بين البلدين و اشتداد السجالات السياسية. فبين شروط قاسية تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران، و التهديد الحربي في عمق البحار، أصبح وضع إيران صعب لأن أمريكا تعيش ركودا اقتصاديا و في ظل ارتفاع الديون التي بلغت 34 تريليون دولار تعتبر الحرب مخرجا ضروريا لتصريف الأزمة الداخلية هذا أولا، و أمريكا بتصويبها السهام صوب إيران، ترعى مصالح إسرائيل أولا و قبل كل شيئ ثانيا. و إيران بتواجدها في العراق، وحضورها في سوريا، اعتقدت أنها اصبحت دولة قوية و باستطاعتها الخروج عن المسار الذي رُسم لها، لذلك فهذه الحملة الشرسة هي لترويض إيران و إن حاولت التمرد على ذلك، ستدفع الثمن باهظا.

خريطة الشرق الأوسط الجديد

فإيران تمت الاستعانة بها لتمزيق المنطقة و تفتيتها، و ربما عملية التفتيت شارفت على النهاية، و يجب نقل الأزمة إليها لكي تبتلع الطعم الذي سممت به المنطقة طيلة عقود. 

و في ظل استمرار نتانياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية و العمل الدؤوب على تفعيل صفقة القرن التي لا تعني شيئا سوى التسريع بخلق شرق أوسط جديد تكون فيه الهيمنة المطلقة لإسرائيل، فإن استمرار إيران في لعب نفس الدور لا يتماشى مع المشروع الصهيوني.

الحلف الروسي الصيني

كما شكلت عملية طوفان الأقصى [و لا زالت] انقلابا كبيرا في الحسابات السياسية في الشرق الأوسط. لأن تقارب إيران مع الحلف الروسي الصيني تجلى بوضوح أثناء أزمة البحر الأحمر التي لا تزال هي الأخرى جارية إلى الآن. حيث يقوم الحوثيون بقصف السفن الأمريكية و البريطانية و استثناء السفن الروسية و الصينية. فهذا الأمر يعبر عن الخطر الأكبر الذي باتت ترعاه الصين و روسيا عن طريق إيران. لكن إسرائيل لا تهمها الدول و لا الرؤساء بقدر ما تهمها مصالحها التي تكيفها مع جميع الأوضاع و حتى الأزمات. لذلك إن رأت إسرائيل أن مصالحها قابلة للتحقق عن طريق التحالف مع الصين. فلن تتوان في الانقلاب على الولايات المتحدة الأمريكية و التضحية بنظام إيران و صداقته.

هجوم الحوثيين على إحدى السفن في البحر الأحمر.

تخطيط بعيد المدى

من بين النقائص التي تعاني منها المنطقة العربية تتجلى في الغياب شبه التام للخبراء الاستراتيجيين المدركين لعمق المشكل الشرق أوسطي. و  من بين الخبراء القلائل نجد حامد ربيع رحمه الله الذي كرس حياته لمسألة إسرائيل. حيث اعتبر أن الصراع معها صراعا وجوديا و ليس صراعا حدوديا. و سخر مقالات لا تعد و لا تحصى لتشريح هذه القضية، لكن لم يصدقه أحد و استمر الساسة في تهميش فكره و نفاذ بصيرته.

فقد تحدث في عدة نبوءات في منتصف ثمانينات القرن الماضي، أن إسرائيل ستستعين بإيران لتفعيل مشروع غزو العراق وسوريا. وبعد أن تتمكن اسرائيل من هدفها. ستنقلب على إيران لكي يخلو لها المجال وتنفرد بالهيمنة في الشرق الأوسط الجديد. و ذلك ما عبر عنه بقوله:  “إن هذا المشروع الضخم للهيمنة لن يتم دفعة واحدة. في مرحلة أولى سوف يوجد نوع من التحالف أو تقسيم مناطق النفوذ مع ثلاث قوى تقف على حافة منطقة الشرق الأوسط:. إيران و تركيا و الحبشة. العلاقة بين إسرائيل و هذه الدول الثلاثة هي علاقة مزدوجة. في مرحلة  أولى تعاون و لكن في مرحلة ثانية سوف تخضع نفس هذه القوى للسياسة التي أخضعت لها منطقة الشرق الأوسط العربية. و بعبارة أخرى فإنه في مرحلة أولى سيتم التعامل على أساس تقسيم مناطق النفوذ. و في مرحلة ثانية يتم استئصال نفوذ تلك الدول و إعادتها إلى حجمها الطبيعي. لتصير دولا تابعة في العالم المتسع الذي تتوسطه إسرائيل”

فتركيا و الحبشة اللتان أصبحتا تشكلان استثناء أيضا في ظل الفترة الراهنة، سيأتي دورهما ذات يوم.

2 تعليقات

  1. أحسنت أستاذ منير
    حياك الله و بياك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *