النظرية الغوبلزية… تحويل الكذب إلى حقيقة

يعتبر جوزيف غوبلز من أبرز أوجه النظام النازي بألمانيا، لأنه لعب دورا كبيرا في دعم أدولف هتلر و تقوية سلطته الحزبية و السياسية. وقد ساهم بخبرته في توجيه الرأي العام الألماني تجاه النازية من خلال الخطب التي كان يلقيها على الجمهور. وبحكم سلطته الإعلامية فقد اعتبر تكرار الأخبار والمعلومات الحجر الأساس في توجيه رأي الإنسان وفي التأثير على وعيه وفكره. ونظرا لأهمية أفكاره، فقد اهتم الدارسون بما خلفه غوبلز، و أطلقوا على إرثه “النظرية الغوبلزية”.

من يكون غوبلز

ازداد جوزيف غوبلز في 29 أكتوبر 1897 في مدينة Rheydt. وحصل على شهادة الدكتوراة في علوم اللغة الألمانية من جامعة هايدلبرغ سنة 1922. مما أهله لكي يكون خطيبا مُفَوّها خلال فترة حكم هتلر. تمكن سنة 1924 من خلق علاقة صداقة مع مجموعة من الاشتراكيين الوطنيين الألمان. وعلى إثر ذلك أصبح محررا للمجلة الاشتركية الوطنية التي كانت تصدر كل أسبوعين. و في نوفمبر 1926، عينه هتلر قائدًا لمنطقة برلين. و منذ تلك السنة شرع في بناء القوة النازية في برلين حتى وصول هتلر إلى السلطة في يناير 1933. كما ازداد نفوذ غوبلز درجة من خلال حصوله على منصب مدير الدعاية للحزب النازي و لكل ألمانيا.

وقد استغل غوبلز ذلك المنصب “في خلق أسطورة الفوهرر حول شخص هتلر و إقامة طقوس الاحتفالات و المظاهرات الحزبية التي لعبت دورًا حاسمًا في تحويل الجماهير إلى النازية.  بالإضافة إلى ذلك، قام بنشر الدعاية من خلال الاستمرار في جدوله الصارم لإلقاء الخطابات”. و ازداد نفوذه قوة بعد سنة 1933 بسبب حصوله على وزير التنوير العام و الدعاية. و”بهذه الصفة كان يسيطر، إلى جانب الدعاية، على الصحافة والإذاعة و المسرح و الأفلام و الأدب و الموسيقى و الفنون الجميلة“.

لقد وظف غوبلز خبراته في علوم اللغة، و أدرك جيدا قوة الكلمة و تأثيرها على عقل الإنسان و مواقفه. وبناء على ذلك وجد أن تكرار الكلام و الخطاب يتسرب لوعي الشخص رويدا رويدا، و يزيح قناعات و يؤسس أخرى. ف”إذا تمكنت حقًا من جعل الكذبة تبدو حقيقية من خلال التكرار، فلن تكون هناك حاجة إلى كل تقنيات الإقناع الأخرى“. و قد كان غوبلز يقول دائما “كرر الكذبة كثيرًا بما فيه الكفاية و ستصبح حقيقة “. وتلعب هذه السياسة دورا كبيرا في خلق “وهم الحقيقة” الذي يجعل المتلقي يعتقد أنه أصبح عارفا بخبايا الأمور و كل ما يفكر فيه يمثل  الحقيقة.

سعي غوبلز إلى تغيير الأفكار

و مع التكرار تتغير حتى المعتقدات و تتبلد المشاعر و تتوقف الأفكار، فكل ما يقوله الزعيم هو عين الصواب. لأجل هذا الهدف ألقى هتلر ما يزيد على 1500 خطاب. وكل خطاب كان يحضر له آلاف الأشخاص، ناهيك عن المستمعين عبر المذياع. و كان جوهر خطاباته ينصب على الانتقام ممن تسببوا في إضعاف ألمانيا، و على ضرورة العمل على بناء إمبراطورية ألمانية قوية تعيد للشعب الألماني مجده. وذلك ما كان يزرعه في الألمان من خلال سياسة المجال الحيوي. فالتكرار يجعل الأمور تبدو أكثر واقعية حتى و إن كانت غير ذلك. لأن الخطاب يستهدف العاطفة و المشاعر و لا يسعى بتاتا لتحفيز التفكير النقدي أو التحليل المنطقي.

حريق الرايخستاغ

تعمل النظرية الغوبلزية على تحديد الأهداف و وضع المسارات قصد الوصول إليها. ولكي يستطيع النازيون الوصول إلى السلطة وظفوا حريق الرايخستاغ (البرلمان الألماني) الذي وقع ليلة 27- 28 فبراير 1933. حيث تم إلقاء اللوم على الشيوعيين رغم أن حيثيات الحدث لا تزال مجهولة إلى اليوم. ومباشرة بعد ذلك الحدث تم تضييق الخناق على المعارضين الشيوعيين، حيث تم نقل العديد منهم إلى معسكرات الاعتقال. واستغل الحزب النازي ذلك الحدث و دفع الشعب إلى الاعتقاد بأن الشيوعيين يشكلون خطرا على الدولة و (الديمقراطية). وقد جاء الحريق أثناء فترة التحضير للانتخابات البرلمانية التي كان يلقي خلالها هتلر خطابين حتى ثلاث خطابات في الأسبوع، تمحورت بشكل أساسي حول الأمن و خطورة الشيوعيين و الانتصار العرق الآري. وتم إجراء الانتخابات في 5 ماي 1933، و فاز فيها الحزب النازي بأغلبية ساحقة.

ولعل الفترة الحالية تشبه ثلاثينيات القرن الماضي. لأن الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية على قدم و ساق. ومحاولة الاغتيال التي تعرض لها المرشح الرئاسي دونالد ترامب قد أربكت الوضع السياسي وزادت من شعبية ترامب و عززت فرصه في النجاح، لأنه يلقي اللوم على خصومه في ما تعرض له. و يقنع الشعب بأن ما يدعو له هو الصواب بينما أعداؤه يريدون الشر بأمريكا. وكل هذا يتم من خلال خطابات متتالية و مهرجانات سياسية كبرى حيث تشتد الدعاية و يُوجه الرأي العام.

جوهر العمليات النفسية

 لقد أثبتت الدعاية فعاليتها في مجال السياسة و في التلاعب بالرأي العام، حتى باتت تعرف الآن بالعمليات النفسية “psychological  operations”. و تطورت الدراسات النفسية المتعلقة بالدعاية  أو النظرية الغوبلزية و تتضمن جزءا بالغ الأهمية، يعرف بتأثير السبق “the primacy effect” حيث “تصف هذه الظاهرة النفسية ميل الناس إلى تقدير المعلومات الأولى التي يتلقونها حول موضوع أو موقف ما بشكل أكبر بكثير من المعلومات التي يتلقونها لاحقًا“.

فالنظرية الغوبلزية القائمة على الدعاية تتعمد التحكم في المعلومات الصادرة المتعلقة بالحدث، لكي يبقى المتلقي مرتبطا بالمصادر الإعلامية. ف”عندما لا يُعرف سوى القليل عن موقف ما، يمكن للمرء توجيه تصورات المتلقين بشكل فعال للغاية و بشكل غير محسوس عن طريق زرع بعض “الرهانات” السردية منذ البداية، و ترسيخ بعض الافتراضات الأساسية الثابتة قبل أن يدرك الناس حتى أن تصوراتهم قد تم التحكم فيها بالفعل“.  

لذلك تساهم تلك الافتراضات في تشكيل التصورات و خلق التوجهات و صياغة الأفكار  التي تصبح مقدمات لدى الجمهور. و”بالتالي فهي “غير مرئية” بالنسبة ل[ه] و توجه إدراك[ه] دون أن يعي ذلك“.

بناء على هذه المقدمات يكون “تأثير السبق” قويًا، خاصة بعد أحداث مؤلمة مباشرة، مثل الهجمات الإرهابية، أو الكوارث الطبيعية، أو المجازر الفعلية أو المزعومة، أو عندما يواجه الناس موقفًا جديدًا مهددًا و مزعجًا عاطفيًا، مما يتركهم في حيرة من أمرهم، و مصدومين، ومليئين بالخوف و الرعب،  و في حالة نفسية و عصبية يكاد يكون فيها التفكير النقدي و العقلاني متوقفًا لفترة قصيرة و هم في أشد الحاجة إلى التوجيه“).

ديمومة النظرية الغوبلزية

يمكن اتخاذ هجمات 11 شتنبر 2001 كنموذج للرواية الأولى التي يتلقاها الجمهور. فمباشرة بعد الحدث تقاطرت التقارير الإعلامية قائلة أن الحدث يتعلق بهجمات إرهابية تتحمل بعض الجماعات الإسلامية مسؤوليتها. وتوالت التقارير مثل كرة الثلج حتى تشكل مفهوم الحرب على الإرهاب. والكثير من سكان العالم صدقوا الرواية و لم تؤلمهم هجمات أمريكا على افغانستان و العراق.

لقد بات واضحا أن النظرية الغوبلزية لم تعد درسا خاصا بالحزب النازي فقط. بل أصبحت أساس العمليات النفسية التي تنهجها الحكومات و جوهر الحرب النفسية التي ترعاها الدول الاستعمارية قصد برمجة الشعوب لتقبل حكم معين أو تحول مقصود. و كما تمكن غوبلز من التحكم في المعلومات المعروضة على الشعب من خلال السيطرة على وسائل الإعلام. فإن العالم الرقمي الآن كله خاضع لرقابة صارمة و ينشر فقط ما يخدم الأجندات السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة.

في ظل العصر الرقمي الذي نعيشه تشكل نظام اقتصادي جديد أطلق عليه “رأسمالية المراقبة”  التي تَعتبر التجربة الإنسانية مادة خام قابلة للترجمة إلى بيانات سلوكية. ”ففي هذا الإصدار من الرأسمالية يعد التنبؤ بالسلوك (السياسي و الاقتصادي) و التأثير عليه بدلاً من إنتاج السلع و الخدمات هو المنتج الأساسي. يعطي هذا المنطق الاقتصادي الأولوية لاستخراج البيانات الشخصية ومعالجتها وتداولها للتنبؤ بالسلوك البشري والتأثير عليه من خلال استغلال تلك التنبؤات لأهداف اقتصادية (تسويقية) وسياسية مختلفة“.

رأسمالية المراقبة

لقد أدت التطورات المتسارعة إلى اندماج الدعاية أو النظرية الغوبلزية مع ”رأسمالية المراقبة و تقنيات الحرب النفسية لدعم دولة المراقبة الحديثة. مما سيؤدي إلى ظهور شكل جديد من الفاشية (الشراكات بين القطاعين العام والخاص) المعروفة باسم الشمولية التقنية“.

بات الآن واضحا أن الشركات الرقمية مثل ميتا، إيكس، يوتيوب تحقق أرباحا خيالية، و تستفيد من الدعاية من خلال التأثير على الجمهور. وأصبحت أداة في يد الشركات الكبرى(بلاكروك – فانجارد) التي تتحكم في المشهد السياسي و في الواقع السوسيو اقتصادي. وحتى يبقى المتلقي خاضعا للدعاية السياسية و الرقمية، تم العمل على دمج ”رأسمالية المراقبة” مع علم النفس، و التسويق، و التلاعب الخوارزمي بالمعلومات على الإنترنت، الأمر الذي أدى إلى ظهور قدرات دعائية و رقابة تتجاوز كثيرا تلك التي تصورتها تنبؤات القرن العشرين لألدوس هكسلي و جورج أورويل“.

إذن، يتضح جليا أن النظرية الغوبلزية أو الدعاية، و كل العمليات النفسية تنصب حول التأثير على الجمهور و تغيير الرأي العام، و تشكيل العواطف التي تشل التفكير، بما يتماشى مع المصالح السياسية و المنافع الاقتصادية. و تحت هذه الشمولية الرقمية التي لا تقبل النقد و الاختلاف، يجب علينا أن نعي جيدا معنى الدعاية و خاصة برمجة العقول حتى لا نقع ضحية لأولائك المبرمجين سواء سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا أو رقميا. و كل ما يتم الترويج له دعائيا يجب علينا مساءلته و توظيف التفكير النقدي و التحليل المنطقي حتى لا نقع فريسة للذئاب البشرية.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *