العلاج بالمعنى… فلسفة الألم و المعاناة

يعتبر فكتور فرانكل من بين أبرز علماء النفس الذين عاشوا في القرن العشرين، كما أنه كان رائدا للمدرسة الثالثة في علم النفس التي ركز فيها على العلاج بالمعنى logotherapy، أي إضفاء معنى على الوجود الإنساني، إلى جانب ألفرد أدلر الذي قاد المدرسة الثانية وركز على مبدأ القوة وسيگموند فرويد زعيم المدرسة الأولى الذي صب كل اهتمامه على قوة اللذة.

ازداد فكتور فرانكل في 26 مارس سنة 1905 بفيينا في النمسا لأبوين يهوديين، وبها توفي أيضا في الثاني من شتنبر سنة 1997. وقد أبدى اهتماما كبيرا بعلم النفس، وفيه تخصص بعد أن حصل على درجة  الدكتوراة، لكن حياته تغيرت بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، لأنه تعرض للاعتقال في السجون النازية في بولندا، في معتقل الأوشفيتز؛ معتقل الحرق بالغاز، ولم يكن قدره الحرق بل الأعمال الشاقة وعاش كل أنواع المعاناة.

يعتبر فكتور فرانكل المؤسس الحقيقي لفلسفة العلاج بالمعنى.
فكتور فرانكل (1905-1997).

تأثير معتقل الأوشفيتز في شخص فرانكل

لقد لعبت المعاناة التي عاشها فرانكل في معتقل الأوشفيتز دورا كبيرا في تعميق فلسفته في العلاج بالمعنى. لأنه تمكن من فهم الحياة وأدرك معناها من جانب آخر، حيث خبر ألم فراق الزوجة، الأب، الأم ( تم حرقهم بالغاز خلال فترة تواجده بالمعتقل) وألم الجوع، والبرد، والاحتقار والازدراء من قبل حراس المعتقل. لكن رغم كل هذا لم يستسلم وكان يرى تلك المعاناة نقمة في عمقها نعمة. وهذا ما يوضحه بقوله ” فإذا كان هناك معنى في الحياة بصفة عامة، فإنه بالتالي ينبغي أن يكون هناك معنى للآلام والمعاناة. فالآلام والمعاناة جزء من الحياة ويتعذر الخلاص منهما، شأنهما في ذلك بل في مقدمتهما القدر والموت. وبدون المعاناة وبدون الموت لا تكتمل حياة الإنسان”.

لذلك، لم يلعن فرانكل قدره في المعتقل، بل اعتبر تلك المعاناة وذلك الألم سببا في إعادة فهم الحياة. وحافزا على إدراك المعنى والغاية من الحياة، أي أن يرسم الإنسان طريقه رغم كل الظروف ورغم كل العراقيل” كل شيء يمكن أن يؤخذ من الانسان عدا شيئا واحدا، أن يختار الإنسان اتجاهه في ظروف معينة، أي أن يختار طريقه”.

واختيار الطريق رغم كل المعاناة يمثل جوهر الحرية الذي يجب أن يحرص عليه الإنسان. والمعاناة لا يجب أن تفقد الإنسان قيمة نفسه، ولا أن تسلبه معنى الوجود. ف”إذا لم يكافح الإنسان حتى آخر جهد لديه لكي ينقذ احترامه لنفسه، فإنه يفقد الشعور بكونه فردا وكائنا له عقل، وله حرية داخلية وقيمة شخصية. فهو عندئذ يعتقد أنه ليس إلا جزءا من حشد هائل من الناس ويهبط وجوده إلى مستوى الحياة الحيوانية”. كما يصرح بذلك فرانكل. 

وهذه القيمة الشخصية والحرية الداخلية تمكن الإنسان من تعزيز قيمته الروحية والتي تمكنه بدورها من شق الطريق نحو النجاح رغم كل الظروف. وهذا ما يؤكده فرانكل” نمط الشخص الذي يصير إليه الإنسان هو نتيجة لقرار داخلي وليس دائما مرتبطا بالظروف. فالإنسان بمقدوره الاحتفاظ ببقية من الحرية الروحية واستقلال العقل حتى في الظروف المريعة من الضغط النفسي والمادي”.

معتقل الأوشفيتز

علاقة الألم بالسعادة

لا يستطيع الإنسان العيش في ظل هذه المعاناة بدون تحمله الألم، و لا يمكن للشخص أن يرقى في حياته ويبلغ عدة مراتب من النضج الفكري والروحي والنفسي دون ذلك. ويؤكد فرانكل هذا القول: “تتجلى العظمة الداخلية في تحمل الألم. يقول دسوتوفسكي: هناك شيء واحد يروعني، ألا أكون جديرا بآلامي. فتحمل الألم يمثل إنجازا داخليا أصيلا، وتلك هي الحرية الروحية والتي لا يمكن سلبها من الانسان. وهي التي تجعل الحياة ذات معنى وذات هدف”.

ويضيف أيضا في نفس السياق” إن الطريقة التي يتقبل بها الانسان قدره ويتقبل بها كل ما يحمله من معاناة، والطريقة التي يواجه بها محنه، كل هذا يهيء له فرصة عظيمة لكي يضيف إلى حياته معنى أعمق”. لكن في ظل التركيز على المعاناة والألم، تم إقصاء جانب مهم من – البشرية، جانب السعادة واللذة، فكيف نفهم هذا الإقصاء؟

إن فكتور فرانكل، وهو خبير بما يختلج نفس الإنسان من هموم ومآسي وما يجعلها تحس بالمتعة، لم يغفل الحديث عن السعادة كمرتبة نفسية لا يمكن للإنسان ان يعيش بدون أن يشعر ولو بجزء يسير منها. لكن فرانكل بتركيزه على العلاج بالمعنى وعلاقته القوية بالمعاناة، ربط السعادة أيضا بالمعاناة. لأن الحياة لا تكون ذات معنى إلا إذا تم ربطها بهدف. فالهدف يجعل الشخص يسخر كل طاقته لذلك الهدف ويعيش السعادة ضمنيا في سعيه الحثيث وعمله الدؤوب. ف”فالويل لمن لا يرى في حياته معنى، ولا يستشعر هدفا أو غرضا لها. ومن ثم لا يجد قيمة في مواصلة هذه الحياة”. ويستدعي فرانكل قولا بليغا لنيتشه يؤكد هذا المعنى:.” من يملك سببا يعيش من أجله فإنه يستطيع غالبا أن يتحمل في سبيله كل الصعاب بأية طريقة وبأي حال”.

فالسعادة مرتبطة بإضفاء معنى على الحياة، ووضع هدف من أجل بلوغ غايات تحقق للإنسان معنى. وفي خضم هذا السعي الحثيث يعيش الإنسان السعادة ضمنيا، لأن في حالة ربط السعادة بشيء أو بزمن معين أو لذة معينة، تضيع السعادة وتضيع فرصة الإنسان في أن يكون سعيدا. 

لا يجب فقدان الثقة في المستقبل

ومن بين الأمور التي يجب على الإنسان التحلي بها..في ظل السعي نحو الهدف.. والتشبث بها تتجلى في عدم فقدان الثقة بالمستقبل. وعدم ربط المستقبل بأي حدث أو أي شخص كان، لأن العقل يركز كل اهتمامه على تلك المنى. وإن لم تتحقق ينقلب كل ذلك الأمل إلى ألم. وقد عاش فرانكل هذه القصة في المعتقل، حيث يقول بأن أحد السجناء أخبره عن حلم راوده ذات ليلة، ومحتوى هذا الحلم أن صوتا أخبر السجين بأن يطلب شيئا، فطلب هذا السجين معرفة متى ستنتهي أيام السجن ويتم الإفراج عنه، فرد عليه ذلك الصوت؛ 30 مارس. وقد كانت السنة 1945، لكن _ يضيف فكتور فرانكل_ كلما تقدم الزمن نحو هذا التاريخ وردت على المعتقل أخبارا غير سارة. وتبدد هذا الحلم الذي عقد عليه السجين كل آماله، ومرض يوم 29 مارس، وارتفعت درجة حرارته وفقد الوعي يوم 30 مارس. وتوفي يوم 31 مارس بحمى التيفوس.

ويعلق فكتور فرانكل على هذه الواقعة بقوله: ” إن من يعرف مدى الارتباط الوثيق بين حالة العقل عند الانسان ويربط بين هذا وبين الجسم ومناعته، فإنه يفهم أن الفقدان المفاجئ للأمل والشجاعة قد يكون له تأثير مميت. فالسبب الرئيسي لموت صديقي هو أن ما كان يتوقعه من إفراج أصبح بعيد المنال. وأن أمله قد خاب بشدة، _ لذلك_ صارت ثقته في المستقبل منعدمة، وأصبحت إرادته على الحياة مشلولة. فوقع جسده ضحية للمرض، وبذلك كان صوت حلمه هو الصحيح برغم كل شيء”. وفي ظل هذا السعي الحثيث الذي يحيا في كنفه الإنسان، لا تغيب المعاناة طبعا. لكن تحضر ميزة أخرى تميز الشخص كذات وهي المسؤولية. 

دور المسؤولية في التمسك بالحياة

فكون الشخص مسؤول عن ما يفعل، وما يعيش، وما يعاني، يكسبه القوة لرسم مساره. وتمكنه المسؤولية من تذليل الصعاب، وفي صلب المسؤولية وفي خضم المعاناة، يتجلى معنى الحياة. فالانسان مسؤول عن ما يعيشه وعن ما ستؤول إليه حياته. وهنا يقول فرانكل ” ما هو متوقع من الحياة ليس في واقع الأمر موضع أهمية، بل إن ما يعنينا هو ما الذي تتوقعه الحياة منا. فالحياة تعني في النهاية الاضطلاع بالمسؤولية لكي يجد الإنسان الإجابة الصحيحة لمشكلاته. فحينما يجد الإنسان أن مصيره هو المعاناة، فإن عليه أن يتقبل آلامه ومعاناته كما لو أنها مهمة مفروضة عليه. وعليه أن يعترف بأن حتى في المعاناة فهو فريد ووحيد في الكون. ولا يستطيع أحد أن يخلصه من معاناته أو أن يعاني بدلا منه”.

ويمكن للألم والمعاناة ان يؤثرا تأثيرا سلبيا على الإنسان، ويجعلانه يتجرد من حاضره ويحاول التعويض عن ذلك بكل السبل. لكن هذا لا يمكن الإنسان من التطور نفسيا، بل يسلبه جزءا كبيرا من حياته. ف” اعتبار الحاضر وجود غير واقعي يفقد الإنسان التمسك بالحياة، ويصبح كل شيء تافه لا قيمة له. لكن ينسى الإنسان أن ذلك الموقف البالغ الصعوبة هو في الغالب ما يمنحه الفرصة لكي ينمو معنويا في ما وراء ذاته” دائما حسب فكتور فرانكل.

ضرورة ربط الحياة بهدف أسمى

يلعب الهدف دورا كبيرا في إعطاء المعنى للإنسان، وما يجعل الهدف ممكننا يتجلى في تحمل مسؤولية الفعل رغم كل العراقيل و الصعوبات. فالإنسان عندما يربط حياته بهدف أسمى تصبح تضحياته وأعماله ذات معنى، ولا يتوانى في القيام بكل ما يلزم. وعندما يُخْلِص الإنسان نفسه لله عز وجل، يحقق جزءا من هذا المعنى، وتصبح مرضاة الله الغاية القصوى. وفي هذا السياق وردت آية في القرآن الكريم تعبر عن هذا ” إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا”(سورة الإنسان، الآية 9). فغاية الفعل انصبت على هدف أسمى يتجاوز الإنسان نفسه.

 لقد قدم فكتور فرانكل نموذجا فريدا يسعى لفهم جزء من حياة الإنسان، وما يرتبط بها من ألم وأمل، وما يساعد الإنسان من إدراك معنى وجوده والذي لا يمكن أن يتحقق مع إقصاء المعاناة. لذلك، فالتركيز على إلغاء كل ما هو سيء من حياة الإنسان يفوت على الشخص فرصة كبيرة للنمو، وهذا ما يجب على مدربي التنمية الذاتية إدراكه.

Loading

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *