العبودية الرقمية

تعتبر العبودية من أقدم الظواهر التي لازمت الإنسان، و لا زالت مستمرة إلى الآن. وقد تعددت أشكالها على مر التاريخ: فمن عبودية الرقيق إلى عبودية الدين، ثم العمل في ما بعد، وصولا إلى العبودية الرقمية التي نعيش حيثياتها الآن. ولا شك أنها ستزداد استفحالا في المستقبل. وقد اتخذت ظاهرة العبودية مساحة كبيرة من حياة الإنسان، سواء لمن عاشها أو تكلم عنها.

يعتبر Solomon Northrup من أبرز الذين عالجوا ظاهرة العبودية لكونه عاش تجربة مريرة أرخ لها من خلال كتابه “اثنا عشر سنة من العبودية”. “twelve years a *slave” و التي بصمها شعار بارز  “لا أريد البقاء على قيد الحياة، أريد أن أعيش“. ” I don’t want to survive, i want to live“.

لقد رصد  الكتاب معاناة سولومون في مزارع القطن و قصب السكر بولاية لويزيانا جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. حيث تم اختطافه في واشنطن سنة 1841 من طرف مافيا استغلال السود. كما  سلط الكتاب الضوء على ظاهرة “تجارة العبيد” التي انطلقت مع بداية حركة” الاكتشافات الجغرافية”. حيث تمكن الأوربيون من الوصول لأماكن المواد الأولية، و بعد أن أحكموا قبضتهم على المزارع و المناجم، صاروا في أمس الحاجة لليد العاملة التي تتحمل الأعمال الشاقة. و هكذا بدأ مشوار نقل العمال من القارة الإفريقية للعالم الجديد على وجه الخصوص. و الأفارقة الذين كان يتم نقلهم عبر المحيط الأطلسي كانوا يشكلون بضاعة مربحة لأشخاص أسسوا شركات خاصة بنقل العبيد قصد بيعهم لأصحاب المزارع و المناجم.

التجارة الثلاثية

لقت تشكلت علاقة قوية بين القارات الثلاث: أوربا، إفريقيا وأمريكا الشمالية ارتكزت على محورية تجارة العبيد التي صارت تعرف تاريخيا ب”التجارة الثلاثية” **. و هذه التجارة تضخمت خلال القرنين السابع عشر و الثامن عشر. حيث تم نقل أعداد كبيرة من الأفارقة، و قد كانت طرق اصطياد السكان المحليين تتم بشكل وحشي، منها:

  • التواطؤ مع خونة محليين ينصب عملهم على جلب الشباب بالقوة لكي يتم شحنهم في سفن تنطلق من غرب افريقيا في اتجاه العالم الجديد.
  • القيام بأعمال وحشية من قبيل إضرام النار في الغابات و الأحراش ( خاصة من طرف البريطانيين) المحيطة بمنازل الأفارقة. فكانوا يخرجون فرارا من لهيب النيران، فكان يتم إمساكهم بالقوة و اقيتادهم للسفن قصد تصديرهم.
  • استبدال الأفارقة بالسلع المصدرة إلى بعض مناطق غرب إفريقيا.

فكل هذه الممارسات شجعت الأوربيين على توسيع شبكة نقل الأفارقة عبر المحيط الأطلسي، الذين كان يتم بيعهم بأثمان مضاعفة كما تمت الإشارة لذلك.

لكن العديد من الأفارقة كانت حياتهم تنتهي في المحيط، إما بسبب الانتحار أو بسبب التصفية بفعل المشاجرة مع أصحاب السفينة.

تبين الصورة حجم معاناة الأفارقة في مزارع الرجل الأبيض.

و كان من بين أبرز الأسباب التي جعلت الأوربيين يتحولون إلى التجارة في البشر، النظرة الدونية للأجناس غير الأوربية. و هذه النظرة خولت لهم استعباد الأفارقة و جعلهم سلعا قابلة للتبادل و البيع.

تقسيم أفلاطون و أرسطو للمجتمع

كما أن الأوربيين تأثروا بالتقسيم الذي وضعه أفلاطون و من بعده أرسطو. حيث قام “أفلاطون بتقسيم البشر إلى صنفين: يونان عاقلين و برابرة متوحشين. فكل من لم يكن يونانيا و لا يتكلم اليونانية فهو بربري متوحش، و هو وحده الجدير أن يكون عبدا لليوناني…ولم يختلف الأمر كثيرا مع أرسطو الذي سار على نهج أستاذه في اعتبار الرق نظاما طبيعيا. – إذ- يربط الرق بالضرورة الاقتصادية فيقول: ” أن الملكية هي أداة للمعيشة، و أن العبد ملكية حية و أداة تعمل بما تؤمر به… و ما دامت الآلة لا تشتغل إلا بقوة العبيد و الأرض لا تنبت الحب إلا بسواعدهم، فإن الرق يبقى ضروريا لاقتصاد الأسرة و المدينة التي لابد لحياتها من أن تشتمل على أحرار يحكمون و عبيد يعملون”¹.

إن ما قال به أفلاطون و أرسطو ليعد أمرا مستغربا صدر عن فيلسوفين بصما تاريخ الفلسفة منذ مآت السنين. و الأمر نفسه مع “جون لوك” الذي يعتبر من أوائل المنظرين للليبرالية الكلاسيكية. حيث كان يدافع عن الحقوق الطبيعية و يرفض بناء على ذلك نظام العبودية، لكنه كان أحد المستثمرين في “الشركة الافريقية الملكية” التي اختصت في تجارة العبيد الأفارقة. و هذا يمثل تناقضا كبيرا بين أفكار لوك و ممارساته اللاأخلاقية.

يضاف إلى كل هذا، الأنشطة المرافقة لتجارة الرقيق التي لم تكن ” تجلب الربح فقط لتلك المجموعات المرتبطة بها بشكل مباشر، و لكن كانت تعود بأرباحها أيضا على شبكة متسعة من المنتجين، حيث إن إعداد سفينة كان يعني بالضرورة حصول أطراف عديدة على رأس المال، و البضائع و الرجال، و من هذه الأطراف الطبيب الجراح وصولا إلى صانعي البراميل من أجل التزود الأساسي بالمياه، كانت هناك أنشطة محلية كثيرة مرتبطة بتجارة الرقيق منها البناء و الإعداد للإبحار، بالإضافة إلى تجارة منتجات المستعمرات و تنسيق نظام مصرفي و سوق للتأمين أيضا”².

تجارة الرقيق

فتجارة الرقيق إذن، كانت نشاطا مربحا لعدة أطراف و هو ما أعطاها الشرعية الاقتصادية و لو مجازا. ف”قد تحولت تجارة العبيد لأحد السلع التجارية المهمة في القرن السادس عشر، و نظرا لزيادة الطلب المستمر على تلك السلعة، اشتدت المنافسة بين الشركة البرتغالية[شركة تكونت من التجار اليهود و الموظفين و البحارة] و بين الشركات الإنجليزية و الهولندية و الفرنسية التي تأسست بغرض استنزاف كافة المحاصيل الزراعية و المعادن من إفريقيا إلى جانب المشاركة في تجارة هذه السلعة الرائجة من العبيد”³.

إذن يتضح أن جزءا كبيرا من ثروة المستثمرين الأوربين قد تشكل عبر تجارة الرقيق التي منحت هؤلاء المتاجرين بالبشر أموالا باهظة. وشركة” الهند الشرقية الإنجليزية ” نموذجا التي كانت نشطة للغاية في شبه الجزيرة الهندية بل تكاد تكون الأداة الاستراتيجية التي تمكنت من خلالها بريطانيا من احتلال الهند، و قد امتد نشاط الشركة أيضا في جنوب خط الاستواء، أي أنها لم تكن مجرد شركة تجارية فحسب، بل كانت أداة استعمارية محورية لبريطانيا،”ففور اعتلاء الملك شارل الثاني عرش بريطانيا 1660م منح شركة الهند الشرقية الإنجليزية حق إعلان الحرب!!، و شن الغارات، و عقد الاتفاقيات، و إجراء المفاوضات السياسية، كما منحها حق الحصول على قوة بحرية لحماية مصالحها في مياه و مناطق الشرق و كان ذلك بموجب المرسوم الملكي الصادر في سنة 1661م”⁴

نشأة عبودية العمل

هكذا تمكنت الدول الأوربية من جمع ثروة ضخمة عبر التجارة في البشر. وقد أعادت استثمار تلك الثروة المتراكمة في الثورة الصناعية. كما أن أهداف نقل العبيد إلى العالم الجديد قد تكلل بالنجاح من خلال تدفق كميات ضخمة من الذهب و الفضة على القارة الأوربية. فكل هذه العناصر شكلت الأساس الذي بنت عليه أوربا نهضتها الصناعية. لكن بالمقابل طرق التخلف و الفقر باب القارة الإفريقية. “أي في الوقت الذي انطلقت فيه أوربا نحو التقدم الصناعي المذهل كان التراجع يجذب افريقيا نحو التخلف و الفقر بعدما تم انتزاع ملايين الأفراد من إفريقيا خاصة من كانوا في سن الشباب من الذكور و النساء، أي كانت عملية تدمير للقوى البشرية التي يقوم عليها التقدم الاقتصادي، بالإضافة إلى ما صاحب الاستعمار الأوربي في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر من استنزاف للمحاصيل الزراعية و المعادن و لم يحدث لأي بقعة جغرافية في التاريخ”.⁵

و من يتتبع حركة التاريخ يجد أنها لا تستقر على حال. فمن الثورة الزراعية قديما إلى الثورة الصناعية حديثا، طرأت عدة تطورات فكرية و تقنية جعلت الأحداث تتسارع، و تم إدخال عدة تغييرات على المنظومة الاقتصادية مع مطلع القرن العشرين بفعل ازدهار استعمال الطاقة البترولية و الكهربائية.

فالشركات التي كانت تنقل البشر عبر المحيطات قصد العمل في المناجم والمصانع، صارت توفر لهم الشغل في دولهم وأماكن إقامتهم. و إذا كان هذا قد غيّب تجارة الرقيق، فقد زكّى عبودية من نوع جديد، عبودية العمل في مكان السكن. “إذ تم استبدال العبودية بنظام يتسم بوجود الأيدي العاملة بالعقود الحرة فقط من الناحية الشكلية و لكن الخاضعة لأجر بخس و لظروف عمل و معيشة لا تختلف كثيرا عما سبق و عاشه العبيد”.⁶

من عبودية الدين إلى العبودية الرقمية

وفي ظل اعتماد الاقتصاد العالمي على القروض، فقد تم إدخال عبودية جديدة (وإن كانت قديمة) و هي عبودية الدين***. حيث إن العامل أَو الموظف يحصل على قرض من البنك مقابل فائدة معينة لفترة زمنية محددة. و بعض الأبناك و الشركات الكبرى تشترط ( بشكل غير مباشر) على العامل أو الموظف أخذ قرض من أجل الاستمرار في العمل. و هذا يعيد تلك الصورة البشعة التي كان عليها العبيد قديما، لكن الوضع الحالي شكله أنيق طبعا.

نظام القروض هذا الذي عمر لفترة زمنية، جعل الاقتصاد العالمي يستهلك أكثر مما ينتج و هذا أمر تستحيل معه الاستمرارية. لأن الديمومة عملية تقتضي التوازن. و النخبة العالمية الحاكمة لا تنهي مرحلة حتى تهيء المرحلة المقبلة جيدا. و نحن الآن في الفترة الانتقالية التي حلت مع بداية جائحة كورونا.

التطور التقني المتسارع و الجيل الخامس من الاتصالات يؤشر على أن الذكاء الاصطناعي ينزل بثقله الكامل و يضغط على الساحة الدولية. لأن المرحلة المقبلة مغايرة تماما لما عاشته البشرية طيلة قرون. حيث إن “رقمنة الإنسان” ستربطه بشبكة مركزية ذكية جدا، و ستطال نظام العمل الذي أصبح عن بعد. كما أن العملة سيتم رقمنتها، حيث بدأت العديد من دول العالم تعمل على الدفع نحو اعتماد العملة الإلكترونية كبديل للنقد. و هذه العملة ستقدم عليها كل دول العالم تمهيدا لتوحيدها مستقبلا. هذا يوحي بأن العالم سيصبح خاضعا لإرادة واحدة.

كما أن الذكاء الاصطناعي بدأ يتغلغل في حياة البشر. لأن الاعتماد على تقنية chatgpt آخذ في الانتشار، لأنه يزيح عن الإنسان هم التفكير و التحليل، و يقدم حلولا جاهزة سيفرح بها الإنسان للحظة لكن ستنعكس بالغباء على أجيال المستقبل التي لن تستطيع إنجاز أي عمل دون الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. كما أن التقنية الجديدة meta ستفصل الإنسان عن واقعه و ستخلق له واقعا يسلخه عن المحيط الاجتماعي.

الدكتاتورية الرقمية

و الفترة الحالية تروم تغيير معايير الإنسان و برمجته حسب الهدف المعلن لأن” إرادة الإنسان لا تتحطم، و لكنها تضعف و تكبح و يتم توجيهها”⁷ .

و هذه الفترة تَسِمُها الفوضى و العشوائية في السياسة، في الطب، في التعليم… كما أن العديد من الشركات قد أفلست، و أخرى قد خفّضت من عدد العمال، و هو ما ينذر بارتفاع في مؤشر البطالة و الفقر. لذلك يبدو” أننا نعيش في فوضى اقتصادية، و لن نستطيع الخروج منها إلا تحت نوع من الزعامة الدكتاتورية”.⁸، و هذا ما تسعى إليه الدولة العميقة في المستقبل البعيد.

و من المعلوم أن الأنظمة الدكتاتورية المستبدة تغير كل شيء حتى طباع الناس. ف” ما يجب أن نحبه أو لا نحبه لن يكون رأينا نحن، بل رأي شخص آخر، و هو الذي سيحدد ما يجب أن نحصل عليه”⁹. و في ظل سيطرة الرقمنة على حياة الناس، ستنتشر العبودبة الرقمية و ستصبح واقعا مقبولا في ظل وجود إنسان لا يفكر و لا يشعر.

فالعالم مقبل على دكتاتورية رقمية توجهها حكومة عالمية واحدة تريد توحيد شعوب العالم تحت مسمى ” تآخي الشعوب” قصد التحكم فيها و استعبادها. لكن توحيد الشعوب يمكن أن يغير مسار خطة النخبة و يمكن أن تفشل، من يدري… فالمستقبل دائما يحمل المفاجآت.

______________________________________

مراجع المقال

¹: أمراء الاستعباد الرأسمالية و صناعة العبيد، رمضان عيسى اللمتوني، إصدارات إي- كتب، لندن ص ص 10-11.

²:العبودية في العصر الحديث، باتريسيا ديلبيانو، ترجمة أماني فوزي حبشي، هيئة أبو ظبي للسياحة و الثقافة مشروع (كلمة)، ص 71.

³: أمراء الاستعباد، الرأسمالية و صناعة العبيد، رمضان عيسى اللمتوني، مرجع سابق، ص 16.

⁴:أمراء الاستعباد، مرجع سابق، ص 36.

⁵:أمراء الاستعباد،مرجع سابق، ص 44.

⁶:العبودية في العصر الحديث، باتريسيا ديلبيانو، مرحع سابق، ص 225.

⁷:الطريق إلى العبودية، فريديرك. أ. هايك، دار الشروق، ترجمة محمد مصطفى غنيم، ص19.

⁸:الطريق إلى العبودية، فريديك. أ. هايك،مرجع سابق ص 83.

⁹:الطريق إلى العبودية، مرجع سابق، ص 103.

* تم تمثيل قصة حياة Solomon Northrup في فيلم يحمل اسم الكتاب سنة 2013.

** التجارة الثلاثية: مصطلح أطلق على عملية تبادل المواد المصنعة و العبيد و المواد الأولية بين القارات الثلاث: أوربا، إفريقيا و أمريكا.

*** نشأ هذا النوع من العبودية خلال العصور الوسطى. حيث كان الضعفاء يرهنون حياتهم للنبلاء مقابل التعهد بالعمل في ضيعاتهم، و هذا مثل بداية تشكل النظام الإقطاعي.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *