دولة الجيتو

يعتبر الدكتور جمال حمدان من بين المفكرين القلائل في العالم العربي الذين تناولوا قضية اليهود. و رغم الغموض الذي يكتنف تاريخ اليهود فإن جمال حمدان لم ينثن عن البحث و التنقيب، و كتابه المعنون ب .” اليهود انتربولوجيا” شاهد على اجتهاداته في البحث عن أصل اليهود و عرقهم و تاريخهم. لأن الفترة التي تلت النكبة سنة 1948 ألقت بظلال من الحروب و المعاناة على فلسطين و العالم العربي. و هذا ما دفع جمال للتنقيب في تاريخ اليهود و عن علاقتهم بفلسطين لأن هذا الجغرافي المتميز ” لا يكتب إلا انطلاقا من لحظة معاناة و كشف.. و جمال حمدان صاحب فكر و ليس ناقلا للأفكار..”¹.

عبقرية جمال حمدان

ازداد جمال حمدان في الرابع من شهر فبراير سنة 1928 في قرية “ناي” بمحافظة القليوبية بمصر، و حصل على الشهادة الابتدائية سنة 1939م. بعد الابتدائية التحق بالمدرسة “التوفيقية الثانوية”، و حصل على شهادة الثقافة سنة 1943م. و التحق بعدها بالجامعة و تخصص في الجغرافيا إلى حين تخرجه منها. و قد أوفدته جامعته إلى بريطانيا سنة 1949م إلى حين حصوله على شهادة الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا من جامعة ريدنج سنة 1953م.

بعد أن درس الجغرافيا و تعمق في فلسفتها توصل إلى فكرة مفادها أن الجغرافيا تتكامل مع التاريخ و أن المكان يتفاعل مع الزمن. و من هنا بدأ اهتمامه ينصب على تاريخ المنطقة العربية خاصة و أنه عايش فترات عصيبة ازدادت فيها قوة إسرائيل و تطاولت على عدة أراضي.

جمال حمدان، المفكر الذي أظهر حقيقة دولة الجيتو.
جمال حمدان، المفكر الذي أظهر حقيقة دولة الجيتو.

و هذا الربط بين الماضي و الحاضر جعله يؤمن بأن “البيئة قد تكون في بعض الأحيان خرساء. ولكنها تنطق من خلال الإنسان، وربما تكون الجغرافيا صماء، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها. و لقد قيل بحق أن التاريخ ظل الإنسان على الأرض، بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الإنسان”².

و حين تعمق في التنقيب عن أصول اليهود، قال بأنهم عندما وصلوا إلى فلسطين وجدوها أرض كنعان. حيث يعتبر الكنعانيون أول من استوطن فلسطين، وهم شعوب من الساميين الشماليين جاءت من الجزيرة العربية.

  و لقب ” اليهود” بالمناسبة يعود إلى أبناء يهودا، أحد أبناء النبي يعقوب عليه السلام. و نظرا لأنهم كانوا البقية المهمة بعد الأسر البابلي، فقد تعمم هذا اللقب على كل بني إسرائيل. كما هو معلوم من التاريخ، فقد تشتت بني إسرائيل في بقاع الأرض. و بعد أن راكموا ثروات طائلة في أوربا، قرروا العودة إلى فلسطين و اعتبروها أرض الميعاد، و لأجل ذلك خلقوا الصهيونية. “فالكل يهود أو صهيونيون، و الكل يعيشون في كنف الاستعمار و حمايته، و الكل أتى بصورة غامضة من نسل يهود الشتات”³.

جمع الشتات

قررت الحركة السياسية الصهيونية جمع شتات اليهود في أرض فلسطين، و جندت لذلك أموالا ضخمة و منظمات و جمعيات انصب اهتمامها على شراء الأراضي و بناء المستوطنات في المدن الفلسطينية، و قد تسببوا في إبادة أعداد غفيرة من الشعب الفلسطيني، و قد بين إلون بابيه ذلك في كتاب ” التطهير العرقي في فلسطين”.

و بعد أن تم الإعلان عن قيام إسرائيل سنة 1948 بدأت ماكينة الحروب تبيد الأطفال و الشيوخ، النساء و الرجال، و استمر الاستيلاء على الأراضي و لا زال قائما، و لن يتوقف إلا عندما تصبح فلسطين كلها لبني إسرائيل. ف” الصهيونية اليوم هي بلا مبالغة أو مزايدة أكبر خطر و تحد يواجهه العالم الاسلامي المعاصر، تماما كما يواجهه العالم العربي: أكبر من صليبيات العصور الوسطى، و أكبر من كل موجة الاستعمار الأوربي الحديث الذي غطته في القرن التاسع عشر و الذي لم يتعد على اتساعه حدود الأغراض السياسية أو الاستراتيجية أو الاستغلالية، إن الاستعمار التوسعي الأخطبوطي الصهيوني إن يكن سرطان العالم العربي، فهو جذام العالم الإسلامي في الوقت نفسه”⁴.

و الصهاينة الحاكمون في إسرائيل اليوم لا يريدون فلسطين فقط. بل يطمحون إلى” إمبراطورية صهيونية من النيل إلى الفرات، و هدف إسرائيل الكبرى أن تستوعب كل يهود العالم في نهاية المطاف. و مثله لا يتم إلا بتفريغ المنطقة من أصحابها إما بالطرد و إما بالإبادة. و بطبيعة الحال فلا سبيل إلى هذا إلا بالحروب العدوانية الشاملة، و نحن بهذا إزاء أخطبوط سرطاني في آن واحد”5.

دولة الجيتو

اليهود في جميع بقاع العالم كانوا يشكلون أقليات تعيش بشكل معزول في أحياء مغلقة. و” إسرائيل تعتبر استمرارا لفكرة الجيتو، من هنا نفهم كيف أن الصهيونية تتاجر بالفعل في الاضطهاد، تذكي ذكراه وتؤجج ناره كلما خبت جذوتها أو رمادها، وتراه ضمان بقائها. في الوقت الذي تمثل فيه اسرائيلها دولة المنتفعين بهذا الاضطهاد. بل أن الفكرة الجذرية في خلق إسرائيل ليست في النهاية إلا فكرة الجيتو بحذافيرها و إنما على مقياس مجمع كبير. فهي وعاء كبير موحد لاستبقاء انعزالية اليهود على الجوييم و تضادهم معهم: إنها الجيتو دولة أو هي  دولة الجيتو. ولكن كما ذاب و يذوب الجيتو في الخارج لن يمضي وقت طويل حتى يذوب و يزول جيتو إسرائيل إلى الأبد”6.

اليهود في أحد أحياء الجيتو في وارسو.

كنت قد بينت في المقال السابق أن أغلب اليهود الموجودين في إسرائيل لا صلة لهم بأبناء إسرائيل. و أغلب يهود العالم حاليا” آريون أكثر منهم ساميين أو بتعبير آخر إنهم أوربيون تهودوا أكثر منهم يهودا تأوربوا”7.

فجمال حمدان الذي عاش يبحث في تاريخ اليهود، فقد توفي بشكل مفاجئ و غريب يوم 17 أبريل سنة 1993. حيث قال بعض إخوته أنه مات بفعل فاعل. ذلك أن حريقا اندلع ببيته و مات متأثرا بجراحه، و سُرقت أوراقه التي كان يعدها عن اليهودية و الصهيونية. لذلك، فكشف الحقيقة يحتاج نفسا حرة مناضلة ترفض الظلم بجميع أشكاله.

__________________

لائحة المراجع:

¹: اليهود انتروبولوجيا، جمال حمدان، دار الهلال، ص: 6.

²: اليهود انتروبولوجيا، مرجع سابق، ص: 12.

³: مرجع سابق، ص:50-51.

⁴: مرجع سابق، ص: 13.

5: مرجع سابق، ص: 28.

6: مرجع سابق، ص: 172.

7: مرحع سابق، ص: 174.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *