تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية (2/2)

6. تمثل هذه الحرب نقطة تحول رئيسية في تطلع العولمة إلى نظام دولي بقواعد جديدة يترسخ في أوراسيا.

كما قال هالفورد ماكيندر ، “أبو الجغرافيا السياسية” منذ أكثر من قرن، كان صعود كل قوة مهيمنة عالمية في الـ500 عام الماضية ممكنًا بسبب الهيمنة على أوراسيا. و بالمثل، فقد ارتبط تراجعها بفقدان السيطرة على تلك الكتلة الأرضية المحورية”.

هذه العلاقة السببية بين الجغرافيا و السلطة لم تمر دون أن يلاحظها أحد من قبل الشبكة العالمية من أصحاب المصلحة الذين يمثلون المنتدى الاقتصادي العالمي. و الذين توقع العديد منهم الانتقال إلى عصر متعدد الأقطاب، و العودة إلى منافسة القوى العظمى، وسط تراجع التأثير السياسي و الاقتصادي لأمريكا وفق ما يسميه التكنوقراط “العولمة الذكية”.

بينما تحاول أمريكا يائسًة التمسك بوضعها كقوة عظمى، فإن الصعود الاقتصادي للصين و طموحات روسيا الإقليمية يهددان بقلب المحاور  الاستراتيجية في أوراسيا. (أوربا الغربية و آسيا و المحيط الهادئ).

إن المنطقة التي تمتعت فيها أمريكا في السابق بهيمنة غير متنازع عليها لم تعد منيعة أمام التصدعات الحالية،. و ربما نشهد تغيير الحرس الذي يبدّل بشكل كبير حسابات تخطيط القوة العالمية.

تشكل الهيمنة على أوراسيا جوهر الهيمنة العالمية.
تشكل الهيمنة على أوراسيا جوهر الهيمنة العالمية.

على الرغم من أن مبادرة الحزام و الطريق الصينية الطموحة (BRI) لديها القدرة على توحيد جزيرة العالم (آسيا و إفريقيا و أوربا) و التسبب في تحول جذري في مركز القوة العالمية، فإن الغزو الأخير لأوكرانيا ستكون له عواقب بعيدة المدى على الشحن بالسكك الحديدية بين الصين و أوربا.

ادعى الرئيس الأوكراني زيلينسكي أن أوكرانيا يمكن أن تعمل كبوابة لمبادرة الحزام و الطريق إلى أوربا. لذلك، لا يمكننا تجاهل حصة الصين الضخمة في التوترات الأخيرة بشأن أوكرانيا. و لا يمكننا تجاهل طموح الناتو الأساسي لكبح صعود الصين في المنطقة من خلال الحد من بيع الأصول الأوكرانية إلى الصين. و بذل كل ما في وسعها لإحباط طريق الحرير الحديث. .

في الوقت الذي تدفع فيه العقوبات روسيا نحو تعزيز العلاقات الثنائية مع الصين و الاندماج الكامل مع مبادرة الحزام و الطريق، قد يكون التكتل التجاري لعموم أوراسيا بمثابة إعادة التنظيم التي تفرض حكامة مشتركة للمشاعات العالمية، و إعادة ضبط عصر الاستثناء الأمريكي.

7. مع تزايد التكهنات حول تأثير الحرب على المدى الطويل على التدفقات التجارية الثنائية بين الصين و أوربا. فإن الصراع بين روسيا و أوكرانيا سوف يدفع بإسرائيل – المدافع الرئيسي عن إعادة الضبط الكبرى – إلى مكانة دولية أكبر.

تعتبر إسرائيل سوقًا جذابة للغاية لمبادرة الحزام و الطريق بالنسبة للصين. و يدرك الحزب الشيوعي الصيني تمامًا أهمية إسرائيل كموقع استراتيجي يربط المحيط الهندي و البحر الأبيض المتوسط ​​عبر خليج السويس.

علاوة على ذلك. اعترفت الحكومة الصينية لسنوات عديدة بأولوية إسرائيل كمركز تكنولوجي عالمي. و استفادت من قدرات الابتكار الإسرائيلية للمساعدة على مواجهة التحديات الاستراتيجية الخاصة بها.

لذلك، من المرجح أن تؤثر وساطة “نفتالي بينيت” بين موسكو و كييف على الدور الفعال لمبادرة الحزام و الطريق (BRI) في توسيع البصمة الاستراتيجية الإقليمية و العالمية للصين و إسرائيل.

إن مكانة إسرائيل كواحدة من المحاور التكنولوجية الرائدة في المستقبل و البوابة التي تربط أوربا و الشرق الأوسط مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بشبكة البنى التحتية المادية. مثل الطرق و السكك الحديدية و الموانئ و خطوط أنابيب الطاقة التي بنتها الصين على مدار العقد الماضي.

هل يمكن استبدال الإنسان الحقيقي بالإنسان الآلي بعد هذه السلسلة من الأزمات؟

تعد إسرائيل بالفعل قوة في مجال تقنيات السيارات و الروبوتات و الأمن السيبراني. و تطمح لأن تكون الدولة المركزية في مملكة الألفية. و من المتوقع أن تلعب الشركات التكنولوجية الناشئة في البلاد دورًا رئيسيًا في “الثورة الصناعية الرابعة”.

إن تعزيز علاقتها المتطورة مع الصين وسط الأزمة الروسية الأوكرانية، يمكن أن يساعد في دفع إسرائيل إلى هيمنة إقليمية بامتياز. مع حصة كبيرة من القوة الاقتصادية و التكنولوجية المركزية التي تجتمع في القدس.

بينما تشرع إسرائيل في بذل جهود لتنويع أسواق صادراتها و استثماراتها بعيدًا عن الولايات المتحدة، فإن ذلك يطرح سؤالًا مهمًا.

هل إسرائيل في المراحل التكوينية الأولى من الاستعانة بمصادر خارجية لمصالحها الأمنية بعيدًا عن الولايات المتحدة و وضع رهاناتها على المحور الصيني الروسي؟

8. من المعروف الآن أن الهوية الرقمية هي ركيزة أساسية في جدول أعمال “إعادة الضبط الكبرى”  للمنتدى الاقتصادي العالمي. و يجب تبسيطها عبر الصناعات و سلاسل التوريد و الأسواق كوسيلة للنهوض بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030. و تقديم خدمات فردية و متكاملة في المدن الذكية في المستقبل.

اعتمد الكثير على كيفية استخدام مثل هذه المنصة للدخول في نظام عالمي للتحكم في امتثال السكان التكنوقراط. من خلال دمج الإنسانية في سلسلة جديدة من قيم الشركات، حيث يتم اعتبار المواطنين كسلع بيانات لمستثمري “الحكامة البيئية و الاجتماعية و الشركات”. ( Environmental, social and corporate governance) و أسواق سندات رأس المال البشري. و منحهم درجة اجتماعية و مناخية بناءً على مدى مواءمتها مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.

لا يمكن إجراء هذا التحقق السلس للأشخاص و الأجهزة المتصلة في البيئات الذكية. إلا بعد تخزين القياسات الحيوية و السجلات الصحية و الشؤون المالية و النصوص التعليمية و عادات المستهلك و البصمة الكربونية و مجموع التجارب البشرية بالكامل في قاعدة بيانات قابلة للتشغيل المتبادل. لتحديد توافقنا مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، و بالتالي فرض تغيير هائل على عقدنا الاجتماعي.

تم الترويج لجوازات اللقاح في البداية من قبل الشراكات بين القطاعين العام و الخاص كنقطة بداية للهوية الرقمية. الآن و قد انتهى مسار هذا المنطق. كيف يمكن للتوترات الجيوسياسية الحالية أن تساهم في توسيع نطاق العقدة الرئيسية في نظام بيئي رقمي جديد؟

تقليديا يطلق على أوكرانيا اسم سلة الخبز في أوربا. و إلى جانب روسيا، يعد كلا البلدين من الموردين العالميين الرئيسيين للحبوب الأساسية. لذلك ، فإن الحرب لديها كل مقومات البجعة السوداء(**) للسلع و التضخم.

مع اقتصاد يتأرجح على حافة الانهيار بسبب أزمة الإمدادات العالمية. أعتقد أن الهزات الاقتصادية الناتجة ستؤدي إلى حالات طوارئ في زمن الحرب في جميع أنحاء العالم و سيُطلب من الجمهور الاستعداد للتقنين.

بمجرد حدوث ذلك. يمكن وصف التبني متعدد الأطراف للهويات الرقمية التي تتعامل مع العملات الرقمية للبنك المركزي. على أنه الحل الأمثل لتدبير و توزيع “حصص الدعم الأسري” في ظل حالة طوارئ استثنائية غير مسبوقة.

لقد طرح بنك إنجلترا بالفعل احتمالية النقد القابل للبرمجة. و الذي لا يمكن إنفاقه إلا على الأساسيات أو السلع التي تعتبر معقولة من طرف صاحب العمل أو الحكومة.

بمجرد منح المُصَدِّر السيطرة على كيفية الإنفاق من قبل المستلم. سيصبح من المستحيل تقريبًا العمل بدون هوية رقمية، والتي ستكون مطلوبة لتلقي “المعونات الغذائية” و الحصول على وسائل العيش الأساسية. فكر في الدخل الأساسي العالمي (Universal basic income ).

إذا استمر تضخم الغذاء في مسار تصاعدي مع عدم وجود علامات على التراجع. فقد تفرض الحكومات ضوابط تقنين على الأسعار و يمكن تسجيل مدخلات الحصص التموينية في دفاتر بلوكتشين (blockchain) على الهوية الرقمية لتتبع بصمتنا الكربونية و عاداتنا الاستهلاكية أثناء حالة طوارئ وطنية.

9. أصبحت أوربا مباشرة على خط النار بمجرد اندلاع حرب مختلطة بين الناتو و المحور الصيني الروسي.

سيكون من قصر النظر تجاهل الخطر القائم بشكل واضح الذي يشكله الهجوم الإلكتروني على البنوك و البنية التحتية الحيوية. أو حتى تبادل نووي مؤقت و تكتيكي بالصواريخ الباليستية العابرة للقارات.

 أرى أن أي طرف متحارب سيكون مقيدًا بعقيدة التدمير المؤكد المتبادل،. لذلك من غير المرجح حدوث تداعيات نووية حرارية.

و مع ذلك، فإن استخدام تقنيات الوصول عن بعد لمحو ذاكرة النظام من جهاز SWIFT المصرفي أو نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك. يمكن أن يجعل الكثير من الاقتصاد الدولي غير عملي و يدفع الدولار إلى الانهيار.

إذا وقع حدث بهذه الأبعاد الكارثية، فإنه سيؤدي بلا شك إلى زيادة الطلبات لإصلاح الأمن السيبراني.

يمكن أن تؤدي تداعيات مثل هذا الحدث إلى إنشاء بروتوكول أمان عالمي جديد. وفقًا له يجب أن يمتلك المواطنون هوية رقمية كإجراء ضروري للأمن القومي.

يمكن للمرء أن يتخيل كيف أن الوصول إلى الإنترنت أو الخدمات العامة في أعقاب هجوم إلكتروني على مستوى الدولة. قد يتطلب من المواطنين استخدام التعريف الرقمي للتحقق من أن أنشطتهم و معاملاتهم عبر الإنترنت من مصدر شرعي و غير ضار.

هناك القليل من المصادفات في السياسة.

إذا بقيت الصراعات الحالية مستمرة، فإن الحرب بين القوى العظمى محتملة الحدوث.
10. ستكون التداعيات الاقتصادية لهذه الحرب كارثية لدرجة أن الحكومات و القطاع العام. سيحتاجان إلى الضخ الكبير لرأس المال الخاص لمعالجة النقص في التمويل.

سيؤدي هذا بشكل كبير إلى تعطيل الفصل التقليدي للسلطات بين المؤسسات المصرفية المركزية و الحكومات. و كما سبق، سيؤثر بشكل غير متناسب على المسار المالي للدول القومية. التي سيتم إضعاف سيادتها من خلال الاستيلاء الشامل على الحكومات من قبل البنوك المركزية و صناديق الاحتياط.

لذلك، فإن نموذج الدولة القومية ينقلب تدريجياً على يد التكنوقراطية العالمية. التي تتكون من اتحاد غير منتخب من قادة الصناعة، و أوليغارشية البنوك المركزية و المؤسسات المالية الخاصة. و معظمها جهات فاعلة غير حكومية. في الغالب تحاول إعادة هيكلة الحكامة العالمية و تجنيد أنفسهم في عملية صنع القرار العالمي،

لذلك، لن يتم تقرير مستقبل العلاقات الدولية و التحول الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي الذي يمر به العالم حاليًا. في ظل الوباء و الصراع الروسي الأوكراني. من خلال التعددية و الممثلين المنتخبين للدول ذات السيادة.

بدلاً من ذلك، سيتم تحديده من خلال شبكة من شراكات أصحاب المصلحة المتعددين التي تحركها سياسات النفعية و ليست مسؤولة أمام أي جمهور ناخب. و ليست مدينة بالفضل لأية دولة و التي لا معنى لها لمفاهيم مثل السيادة و القانون الدولي.

إذن من خلال هذا المقال يتبين أن الحكومة الخفية التي لا تبالي بمليارات البشر و تريد إعادة هيكلة العالم. من خلال الوباء أولا و الحرب ثانيا. و الحرب في أوكرانيا بداية فقط لسلسلة من الحروب الإقليمية بشكل أساسي. مثل ما يجري في إفريقيا من انقلابات عسكرية. كما يمكن أن تتطور الخلافات السياسية بين بعض الدول إلى حروب إقليمية مثل: الهند و باكستان. المغرب و الجزائر. و الحروب هذه طبعا يقودها حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية و بتعاون مع الدول الأوربية. و هذه الحروب المتتالية ستنعكس بشكل سلبي على مجمل حياة الشعوب. ناهيك عن أزمة الطاقة و الغذاء و الماء… و لا زال القدر يغلي.

هوامش:

(*): تقنية “كريسبر” (CRISPR : التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد) هي تقنية للتعديل الجيني تتيح تعديل الحمض النووي للكائن الحي.

(**): نظرية البجعة السوداء هي نظرية تُشير إلى صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة. تقوم هذه النظرية على الفكرة السائدة بأن البجع كله أبيض أما وجود البجع الأسود فهو نادر و مفاجئ -و كان ذلك قبل اكتشاف البجع الأسود في أستراليا الغربية- الذي كان حدثًا غير متوقع و مفاجئ. تنطبقُ هذه النظرية على الأحداث التاريخية التي لم يكن من الممكن التنبؤ بها و احتمال وقوعها غير وارد بالنسبة لنا، لأن عقلنا يعمل بطريقة بقعة الضوء حيث يركّز على امور و يغفل عن أخرى.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *