القتل الاقتصادي الجديد

ظهر مفهوم القتل الاقتصادي مع بداية الحرب الباردة التي كانت تعبيرا عن الصراع غير المسلح بين الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفياتي. و في إطار تنافسهما الدولي، اتبع كل منهما أساليب و استراتيجيات مختلفة.

لقد كان كيرميث روزفيلت من أوائل القتلة الاقتصاديين، فقد ارتكز نشاطه على منطقة الشرق الأوسط. فبعد مشاركته في الإطاحة بحكم الملك فاروق في مصر سنة 1952. لعب دورا كبيرا في تنصيب الرئيس جمال عبد الناصر و في جعل مصر تستنشق الهوى الأمريكي عوض البريطاني.

بعد نجاح ثورة الضباط الأحرار، انتقل كيرميت إلى إيران التي كانت على موعد مع إسقاط حكم محمد مصدق. رئيس الوزراء الإيراني الذي أراد أن تحصل بلاده على عائدات النفط، و عوض احترام قرارات مصدق، تم اتهامه بالتعامل مع الاتحاد السوفياتي. كما أشرف كيرميت على تنظيم مظاهرات حاشدة نادت بتحرير البلاد من حكم المسؤول الغيور على وطنه. و تمت إزالة حكم مصدق سنة 1954 و تعويضه بحكم الشاه الذي أغرق البلاد في وحل الفساد و مكن الشركات الأمريكية مما كانت تسعى إليه.

اعترافات قاتل اقتصادي

بعد كيرميت روزفلت، جندت الشركات الكبرى قاتلا اقتصاديا آخر. كان يعمل جاهدا على إقناع دول العالم النامي بالخصوص،  على قبول مشاريع تقترحها الشركات العابرة للقارات. بهدف رهن موارد الدول لتلك الشركات و جعلها تحت تصرفها. و الدول لكي تنجز تلك المشاريع كان يتحتم عليها أن تقترض من المؤسسات الدولية الكبرى. التي تتسلل للبلاد المقترضة و تبسط يدها على خيراتها و مواردها. فقد وقع هذا الأمر في عدة دول من أمريكا الوسطى و اللاتينية. بالإضافة للدول الإفريقية التي لا زالت تكابد تبعات القتل الاقتصادي.

لقد كان جون بيركنز ذلك القاتل الاقتصادي الذي تم تكليفه من أجل إقناع رؤساء عدة دول بتقبل شروط الشركات الكبرى. حيث بين في كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي” بعض الأساليب التي كان يتم اتباعها من طرف هذه الشركات. حيث كان يتم عرض اتفاق مع رئيس الدولة المستهدفة على اقتسام الأرباح. إن تم رفض الاقتراح يتم اللجوء للمظاهرات بهدف الضغط على الحاكم أو إسقاطه. إن فشلت هذه الخطة يتم اللجوء للاغتيال. و النماذج هنا كثيرة، لعل أبرزها عمر توريخوس. رئيس بنما الذي قال لا لأمريكا، لكن صقور المخابرات الأمريكية لم تمهله و اغتالته سنة 1981. و إن فشلت كل هذه الخطط يتم اجتياح البلد عسكريا كما وقع مع العراق سنة 2003.

جون بيركنز، صاحب كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي”.

لقد ولّى زمن البحث عن الموارد الطبيعية و اجتياح الدول و تخريبها من أجل البترول و الموارد الأحفورية. لقد جاء الآن عهد القتل الاقتصادي الجديد. الذي تقوده شركات عملاقة تملك تريليونات الدولارات من الأصول، و لها سلطة كبيرة جدا على مؤسسات دولية كبرى. دون الحديث عن رؤساء الدول الذين لا يستطيعون قول لا في وجه أولئك الزعماء العابرين للحكومات و القارات. و من تلك الشركات نجد بلاكروك blackrock و فانجارد vanguard، بالإضافة إلى ستايت ستريت state street. اللاتي تعتبر مجتمعة من عمالقة الثروة العالمية.

استراتيجية القتل الاقتصادي الجديد

لقد تطورت سياسة هذه الشركات في ما يخص نهب ثروات الشعوب في إطار القتل الاقتصادي الجديد. حيث أصبحت جيوب الموظفين مرتعا خصبا لتلك الشركات. لأن الإصلاحات الاقتصادية التي صارت تعتمدها دول العالم ترتكز على تقليص كتلة الأجور، الرفع من سن التقاعد، تحديد سن ولوج الوظيفة العمومية في 30 سنة مثل ما تم اعتماده في قطاع التعليم في المغرب منذ سنتين. و يتم اعتماد هذه التدابير تحت مسمى “الاستثمار في الرأسمال البشري” أو ” حماية الموارد البشرية”.

فالشركات السالفة الذكر التي تهيمن على مقاليد الاقتصاد لها توافق كبير مع كل المؤسسات الكبرى الأخرى مثل المنتدى الاقتصادي العالمي، الأمم المتحدة، منتدى دافوس، البنك الدولى، صندوق النقد الدولي…

فهذه المؤسسات لكي تُنزّل الإصلاح الذي تريده، تلجأ لصياغة تقارير و وضع قوانين تسهل الوصول للأهداف المرجوة. و لنا في تقرير البنك الدولي المعنون ب “المغرب في أفق 2040” خير مثال، حيث دعا إلى تعميم القطاع الخاص و تخفيف عبئ ميزانية الدولة من خلال تخفيض كلفة الوظيفة العمومية، بالمقابل تمت الدعوة للرفع من الضرائب. إلى جانب البنك الدولي نجد المنتدى الاقتصادي و الاجتماعي التابع للأمم المتحدة الذي يصدر تقاريره بشكل سنوي، و له فروع في جميع دول العالم.

النموذج التنموي الجديد

لتأكيد انخراطه في أهداف التنمية المستدامة، أسس المغرب المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي سنة 2011 تحت رئاسة شكيب بنموسى الذي يشغل الآن منصب وزير التربية الوطنية و التعليم الأولي و الرياضة. و المجلس هذا في جميع تقاريره السنوية كان يحث و لا زال على ضرورة دعم تعليم جيد و فعال يستجيب لتطلعات الدولة و يحقق آمال الأسر. حيث أكد في تقرير سنة 2017 على ” تركيز الجهود على تأهيل المدرسة العمومية من أجل الارتقاء بها و جعلها فضاءً لتلقي تعليم جيد… و التوجه نحو مدرسة عمومية يتم تدبيرها وفق قواعد تسيير صارمة و حديثة”.

لقد قدم شكيب بنموسى تقرير النموذج التنموي الجديد سنة 2021. و رغم معرفته و اطلاعه على تقارير المجلس السالف الذكر. فلم يقدم في النظام الأساسي الجديد أي ذكر للزيادة في الأجور تخص رجال التعليم. في حين ازدادت المهام الملقاة على عاتقهم. كما تزايدت العقوبات التي ستجعل المدرس يتقهقر إن هو خالف سياسة الوزارة و الحكومة.

النموذج التنموي الجديد، حصيلة عمل المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي.

عواقب الإصلاح

و الإصلاح المنشود لن يتوقف هنا، بل سينضاف له إصلاح أنظمة التقاعد حيث سيتم الرفع من سن مغادرة الوظيفة العمومية. بينما يتم خفض أجور المتقاعدين بدعوى إفلاس أنظمة التقاعد. لكن في حقيقة الأمر كل هذا من تخطيط صندوق النقد و البنك الدوليين. لأن كل المؤسسات الدولية تخطط لخلق حكومة عالمية و تسعى لجعل الموظفين يتقاضون أجرا واحدا موحدا تحت مسمى ” الدخل الأساسي العالمي”.

هكذا أصبح القتل الاقتصادي الجديد ينهب الموارد البشرية، و يسرق جيوب الموظفين و يستولي على قدرات الشعوب المستقبلية. و لن تتراجع تلك الشركات عن ما تسعى إليه إلا بصحوة حقيقية تحيي وعي الإنسان و توقظ ضميره من السبات الذي دام عهودا طويلة. لأن الشعوب الآن صار لها عدو واحد مشترك يريد الإجهاز على حريتها و يسعى لإحياء العهد الفيودالي الاستعبادي.

إن المؤسسات التي تخطط للهيمنة على العالم، لن تتخلى عما هي عازمة عليه إلا بضغط كبير من قبل الشعوب. و بنضال قوي من طرف المعنيين بالإقصاء و التهميش. لذلك، فنحن في حاجة ماسة لنضال حقيقي يعيد الحقوق لأصحابها. و لنفس طويل يغذي الصمود في وجه المستبدين و وكلائهم.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *