الرأسمالية الروحية… توظيف التأمل في تخدير العقول

يعتبر التأمل من أبرز الممارسات الروحية المنبثقة عن البوذية. وقد اكتسب شهرة كبيرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، خاصة عندما قام الراهب البوذي تيش نهات هانه Thich Nhat Hanh بتأسيس مدرسة التأمل أو اليقظة الذهنية mindfulness في الفيتنام خلال ستينيات القرن العشرين بهدف تدريب الناس على مواجهة ظروف الحرب و تحفيز الشباب على تقديم الدعم للفلاحين و الفقراء. واكتسب التأمل زخما كبيرا في الغرب مع جون كابات زين jon kabat-zinn  أواخر سبعينيات القرن الماضي، الذي حول التأمل إلى تجارة بحتة. وأصبحت اليقظة الذهنية سلعة تجارية و وسيلة لجني الأموال، و انتقلت من كونها ممارسة روحية إلى رأسمالية روحية تسعى لتكريس الواقع دون السعي إلى تغييره. فما هي مرتكزات التأمل؟ و كيف تحول إلى مادة قابلة للتسويق؟

مرتكزات التأمل

يشير معنى التأمل إلى الحالة التي يكون فيها الفرد واعيا بما يفكر و يشعر في اللحظة الحاضرة من دون إصدار أي حكم على نفسه. و الهدف الأساس من التأمل يتجلى في التخلص من الألم و الضيق و تحسين الحالة النفسية للأفراد.   كما يعتبر تحقيق السعادة من أبرز ما يقوم عليه التأمل. حيث يؤكد لنا جون كابات زين أن “السعادة هي وظيفة داخلية” تتطلب منا ببساطة، الاهتمام باللحظة الحالية بوعي و قصد دون إصدار أحكام. ويزعم عالم الأعصاب ريتشارد ديفيدسون، و هو من المروجين الصريحين للممارسة التأملية، أن “الرفاهة مهارة” يمكن تدريبها، مثل تدريب عضلات الذراع في صالة الألعاب الرياضية. والفكرة الأساس التي يتم الترويج لها من خلال ممارسة اليقظة الذهنية، أنك حين “تكون أكثر وعياً، سوف تكون سعيداً، بغض النظر عن الأفكار و المشاعر التي لديك، أو أفعالك في العالم“.

   كما يقوم التأمل على تمارين التنفس؛ الشهيق، الزفير التي يعتبرها تيش نهات هانه جوهر اليقظة الذهنية. لأنها تقطع الطريق على التفكير الزائد الذي يثير القلق و الخوف. يوضح تيش نهات هانه هذا بقوله: “إن أولئك الذين لا يستطيعون التوقف عن التفكير، و الذين يصابون بالتوتر، و الذين يُوَلِّد تفكيرهم الكثير من الخوف و اليأس، يعرفون أن التفكير لا يساعد على الإطلاق. إن التفكير يقودك إلى المزيد من الارتباك، و المزيد من الخوف، و المزيد من عدم اليقين. وبالتالي فإن التفكير ليس وجودًا. أنا أفكر إذن أنا لست موجودًا. أنا لست على قيد الحياة. وبالتالي فإن التوقف عن التفكير هو بداية الحياة”.

بعض تمارين التنفس

كما تعتبر تمارين التنفس أمرا أساسيا في تجاوز المشاعر التي تأخذ الراحة من نفسية الفرد. ف “إذا كانت هناك مشاعر قوية أو مؤلمة، فيجب أن نعرف كيفية التعامل مع هذه المشاعر – مثل الخوف والغضب واليأس. ويمكن القيام بذلك من خلال ممارسة التنفس الواعي“.

نماذج من أفكار بعض المعالجين الروحيين

لقد بات معروفا أن التأمل مستلهم من الديانة البوذية التي تجعل من الاستقرار النفسي و السلام الروحي أساس الوجود الإنساني. و تسعى لمساعدة الآخرين و تعميم الخير على الجميع. وبحكم الطابع العلماني للمجتمعات الغربية التي ابتعدت عن الدين و صارت تعاني من فراغ روحي، استغل أصحاب الرأسمالية الروحية ذلك من أجل نشر تعاليم التأمل التي تقدم ذكرها. وقد لعب جون كابات زين دورا كبيرا في نشر التأمل واليقظة الذهنية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي. حيث أسس في معهد ماساتشوستس برنامج تخفيف التوتر باعتماد اليقظة الذهنية.

كما برز ديباك شوبرا Deepak Chopra  أيضا كمعالج روحي يجعل من التأمل وسيلة تمكن الشخص من الوصول إلى «صحة مثالية»، وهي حالة «يخلو فيها من المرض، ولا يشعر بالألم أبدًا». و «لا يمكن أن يتقدم في العمر أو يموت». كما يرى أيضا أن جسم الإنسان مدعوم «بجسم ميكانيكي كمي» لا يتكون من مادة بل من طاقة و معلومات. ويعتقد أن «شيخوخة الإنسان سلسة وقابلة للتغيير؛ يمكن أن تسرع، أو تُبطئ، أو تتوقف لبعض الوقت، و حتى يمكن عكسها»، كما تحددها الحالة الذهنية للفرد. يدعي أن ممارساته يمكن أن تعالج أيضًا الأمراض المزمنة”.

كما انتشرت تعاليم إيكهارت تول Eckhart Tolle منذ تسعينيات القرن الماضي، التي تركز على الحاضر و على اللحظة الآنية, يقول إيكهارت “ليس لك من الزمن سوى هذه اللحظة. “الآن” هو كلّ شيء. يُقال إن الزمن وهم عقلي، مفهوم مجرد في الذهن، وما من شيء في الواقع اسمه الزمن. هكذا و بكل بساطة، الماضي لا وجود له، و المستقبل لا وجود له أيضًا. أما الحاضر، فهو متكثِّف في اللحظة و حسب. غير أنّ البشر يعيشون إما مثقلين بالماضي أو مهمومين من المستقبل. هذا التمزّق الذهني هو ما يجعلهم غير مدركين للقوة الكلية لوجودهم؛ وهي قوة تكمن في هذا الذي أسميه “الآن”.

أبرز رواد الرأسمالية الروحية.
من اليمين إلى اليسار: جون كابات زين، ديباك شوبرا، إيكهارت تول.

تسليع التأمل

لعبت وسائل الإعلام دورا كبيرا في الترويج للتأمل و تعاليم اليقظة الذهنية. حيث كانت أوبرا وينفري تستقبل بعضا من هؤلاء و تقدم كتبهم و أفكارهم، حتى يتعرف عليها الشعب و يقبل عليها. ولكي تدعم وسائل الإعلام موقفها كانت تستشهد “بشكل يومي تقريبًا، بدراسات علمية تتحدث عن الفوائد الصحية العديدة التي تقدمها ممارسة اليقظة الذهنية والآثار التحويلية لهذه الممارسة البسيطة على الدماغ”.

فكل هذه التعاليم التأملية باتت سلعة تدر مليارات الدولارات على الرواد الأساسيين. خاصة ديباك شوبرا الذي تقدر ثروته ب 150 مليون دولار، و جون كابات زين الذي تفوق ثروته 45 مليون دولار، و قس على ذلك باقي المعالجين. والكتب التي تباع تقدر بالملايين، و البرامج و الدورات التي يتم تسويقها عددها لا يحصى، أضف إلى ذلك تطبيقات الهواتف التي قدر عددها ب 2500 سنة 2015، و لا زالت في تزايد مستمر.

تسليع التأمل أصبح تجارة بحتة تدر الملايير.

لقد ساهم تسليع التأمل و اليقظة الذهنية في إفراغ تلك الممارسات من معناها وجعلها تبرر الواقع عوض التفكير في تغييره. حيث “إن تحويل الوعي الذهني إلى سلعة تجارية يجعله خالياً من البوصلة الأخلاقية أو الالتزامات الأخلاقية. وغير مرتبط برؤية للخير الاجتماعي، يبقيه راسخاً في أخلاقيات السوق”. فالشركات الكبرى تفكر في الربح و في إرضاء الزبناء. وكل ذلك على حساب العمال الذين يقال لهم عليكم بالتأمل من أجل تخفيف ضغط العمل ومواجهة الضغوطات النفسية التي تعيشونها. “فمن خلال وضع كل القلق والتوتر في الموظف، تجعل الشركة الموظف مسؤولاً بالكامل عن التعامل مع التوتر. ويمكنه تجنب النظر إلى أي تأثير يلعبه الهيكل والثقافة المؤسسية في خلق التوتر”.

تعزيز الروحانية الفردية

إن “تهدئة مشاعر القلق والاضطراب على المستوى الفردي يغني عن البحث عن أسباب تلك المشاعر “. فعزل الفرد عن محيطه و جعله منغلقا على نفسه يكابد لوحده يعتبر جزءا من “الروحانية الفردية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بأجندة الخصخصة النيوليبرالية. إن قوى السوق تستغل بالفعل زخم حركة اليقظة الذهنية، و تعمل على إعادة توجيه أهدافها نحو عالم فردي محدد للغاية”. كما “يعتقد قادة حركة الوعي الذهني أن الرأسمالية و الروحانية يمكن التوفيق بينهما. فهم يريدون تخفيف الضغوط عن الأفراد دون الحاجة إلى النظر بشكل أعمق و أوسع إلى الأسباب الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي أدت إلى هذه الضغوط“.

وهذا يوحي بأن ” تخفيض مستويات التوتر وزيادة السعادة الشخصية و الرفاهية أسهل كثيراً في البيع من التشكيك بجدية في أسباب الظلم و عدم المساواة و الدمار البيئي. فالأمر الأخير ينطوي على تحدي النظام الاجتماعي، في حين يلعب الأول دوراً مباشراً في أولوياته”.

إلقاء كامل اللوم على الإنسان

فتبرير الواقع و عدم التفكير في استئصال الظلم من المجتمع يجعل من “الوعي الذهني وسيلة لتنويم الأفراد و المنظمات عن جذور الجشع وسوء النية و الأوهام غير الصحية. [و يتم تقديمه على شكل] تقنية علاجية مبتذلة للمساعدة الذاتية التي في الواقع تعمل على تعزيز تلك الجذور”.

بات واضحا أن اليقظة الذهنية أصبحت أداة في ترسيخ الرأسمالية الروحية. و صارت أيضا من بين أجندة المنتدى الاقتصادي العالمي. حيث صرح أحد المشاركين في منتدى دافوس “إن السبب الجذري لأزمتنا الاقتصادية والحضارية الحالية ليس وول ستريت، ولا النمو اللانهائي، ولا الشركات الكبرى أو الحكومات الكبرى، إن السبب بين آذاننا“. فالمؤسسات الكبرى تلقي اللوم على الإنسان في كل ما يعانيه، و تبرئ نفسها من حقيقة ما يجري في الواقع.

كما أن “لا أحد ينكر أن هناك جشعًا داخليًا وكراهية ووهمًا (الجذور الثلاثة للمعاناة) نحتاج إلى تطبيق اليقظة الذهنية عليها. و هناك أيضًا جشع و كراهية و وهما مؤسسيًا خارجيًا نحتاج إلى أن ننتبه إليه كما هو موجود في هياكل الشركات الرأسمالية المتمثلة في وول ستريت والجيش والشرطة العسكرية. ووسائل الإعلام القائمة على الربح على حد سواء. وكيف يتفاعل هذان الأمران هو المقصود بالداخل و الخارج. لا يمكن أن يحدث التحرير إلا عندما تسير اليقظة الذهنية والمقاومة لهذه القوى جنبًا إلى جنب، داخليًا و خارجيًا في وقت واحد”.

الارتماء في أحضان حركة العصر الجديد

لقد تبين بالملموس أن الجانب الروحي الذي استطاع أن يفلت من مخالب الرأسماليين في الماضي قد أصبح سلعة و مادة قابلة للبيع. فتم بذلك تسليع الجانب الروحاني و تعليب الإنسان في قوالب تدعي أنها تسعى لتخليصه من المعاناة و جعله يحظى بحياة كريمة. لكن حقيقة الأشياء ليست كما تبدو في الواقع. فالدين في جوهره قد جاء لتحرير الناس من كل مظاهر الاستعباد. و تدريب النفوس على محاربة الطمع و الجشع. و بهدف بناء نظام عادل قادر على ضمان حياة كريمة للمجتمع، مع الإبقاء على الصلة وثيقة بين العبد و ربه.

لكن ما بات عليه الدين في المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة من إقصاء وتهميش جعل الناس يعانون من فراغ روحي. و قد أجبرهم ذلك على البحث عن تعويض ذلك الفراغ بواسطة التأمل و اليقظة الذهنية و اليوݣا. لكن لم تهدهم تلك الممارسات لتوظيف الدين توظيفا صحيحا بل تقوقعوا على أنفسهم و انسلخوا من الواقع الذي يعيشون فيه و يكتوون بنار حره، و قطعوا الصلة بالله، و أصبحوا أدوات تنفيذ الرأسمالية الروحية. و تلتقي غايات التأمل مع أسس حركة العصر الجديد التي تروج للعلاج بالطاقة و تقول بأن الإنسان بإمكانه الاستغناء عن الدين و الانكفاء على الذات تحت مسميات الترددات و الطاقة الكامنة في نفس الإنسان، و أن عن طريق تلك الترددات يستطيع التواصل مع الكون، لأن داخل كل إنسان إله صغير يغنيه عن الارتباط بالله.

Loading

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *