تتمة الجزء الأول:

في 4 فبراير 2022، قبل ثلاثة أسابيع من إطلاق روسيا «عمليتها العسكرية الخاصة» في أوكرانيا، أصدر الرئيسان فلاديمير بوتين وشي جين بينغ بيانًا مشتركًا مهمًا:

” يدعم الجانبان [الاتحاد الروسي و جمهورية الصين الشعبية] بقوة تطوير التعاون و التبادلات الدولية [. . . ]، و المشاركة بنشاط في عملية الحكامة العالمية ذات الصلة، [. . . ] لضمان التنمية العالمية المستدامة. [. . .] و ينبغي للمجتمع الدولي أن يشارك بنشاط في الحكامة العالمية[.] [. . .] كما أكد الجانبان مجددا عزمهما على تعزيز تنسيق السياسة الخارجية، و السعي لتحقيق تعددية الأطراف الحقيقية، و تعزيز التعاون على منصات متعددة الأطراف، و الدفاع عن المصالح المشتركة، و دعم توازن القوة على المستويين الدولي و الإقليمي، و تحسين الحكامة العالمية. [. . .] يدعو الجانبان جميع الدول إلى حماية الهيكل الدولي الذي تقوده الأمم المتحدة و النظام العالمي القائم على القانون الدولي. و السعي إلى تعددية القطبية الحقيقية مع قيام الأمم المتحدة و مجلس الأمن التابع لها بدور مركزي و تنسيقي. و تعزيز علاقات دولية أكثر ديمقراطية، و ضمان السلام و الاستقرار و التنمية المستدامة في جميع أنحاء العالم”.

مفهوم الحكامة العالمية

عرّفت إدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، «الحكامة العالمية» في منشورها الصادر عام 2014 بعنوان الحكامة العالمية و القواعد العالمية للتنمية في حقبة ما بعد عام 2015:

” تشمل الحكامة العالمية جميع المؤسسات و السياسات و المعايير و الإجراءات و المبادرات، التي تحاول الدول و مواطنوها من خلالها تحقيق المزيد من القدرة على التنبئ و الاستقرار و النظام في استجاباتهم للتحديات العابرة للحدود الوطنية”.

ربما تمثل هيمنة مجموعة واحدة من الدول القومية القوية على نظام الحكم العالمي أخطر قوة و زعزعة للاستقرار على الإطلاق. إنه يسمح لتلك الدول بالتصرف مع الإفلات من العقاب، بغض النظر عن أي ادعاءات حول احترام «القانون الدولي» المزعوم.

كما أن الحكامة العالمية تحد بشكل كبير من استقلال السياسة الداخلية للدولة القومية. على سبيل المثال، يؤثر جدول أعمال الأمم المتحدة للتنمية المستدامة للقرن 21، مع استخدام جدول أعمال 2030 في الوقت القريب كنقطة اتصال. على جميع السياسات المحلية الوطنية تقريبًا – حتى تحديد المسار لمعظم السياسات المحلية – في كل بلد.

إن إشراف الناخبين الوطنيين على “مجمل” سياسات الأمم المتحدة ضعيف إن لم يكن منعدما. فالحكامة العالمية لا تجعل ما يسمى ب “الديمقراطية التمثيلية” إلا مجرد قطعة صوتية فارغة.

نظرًا لأن الأمم المتحدة هي شراكة عالمية بين القطاعين العام و الخاص (UN-G3P). فإن الحكامة العالمية تسمح لـ «شراكة أصحاب المصلحة المتعددين» – و بالتالي الأوليغارشيين. – بتأثير كبير على السياسة الداخلية و الخارجية للدول الأعضاء. و في هذا السياق، يقدم تقرير إدارة الشؤون الاقتصادية و الاجتماعية التابعة للأمم المتحدة (انظر أعلاه) تقييما صريحا للطبيعة الحقيقية للإدارة العالمية UN-G3P:

شراكة أصحاب المصلحة المتعددين، تعبير عن الحكامة العالمية.
شراكة أصحاب المصلحة المتعددين: نموذج التحالف بين القطاعين العام و الخاص.

اتحاد القطاعين العام و الخاص

” قد أدت المقاربات الحالية للحكامة العالمية و القواعد العالمية إلى زيادة تقلص حيز السياسات أمام الحكومات الوطنية [.]؛ و هذا يعوق أيضا الحد من أوجه عدم المساواة داخل البلدان. [. . .] و أصبحت الحكامة العالمية مجالا يضم العديد من الجهات الفاعلة المختلفة، بما في ذلك: المنظمات المتعددة الأطراف؛ […] تجمعات النخبة المتعددة الأطراف مثل مجموعة الثمانية و مجموعة العشرين [و] ائتلافات مختلفة ذات صلة بمواضيع سياسية محددة [.]

[.. .] و تشمل أيضا أنشطة القطاع الخاص (مثل الاتفاق العالمي) و المنظمات غير الحكومية و المؤسسات الخيرية الكبيرة (مثل مؤسسة بيل و ميليندا غيتس و مؤسسة تيرنر) و الصناديق العالمية المرتبطة بها لمعالجة قضايا معينة [.] [. . .] إن الطابع التمثيلي و فرص المشاركة و الشفافية للعديد من الجهات الرئيسية الفاعلة مفتوحة للتساؤل. [. . .] و كثيرا ما تكون للمنظمات غير الحكومية [.] هياكل إدارية لا تخضع للمساءلة المفتوحة و الديمقراطية. يكتسي افتقار الشركات للتمثيل و المساءلة و الشفافية أهمية كبرى. لأن الشركات تتمتع بسلطة أكبر و تعمل حاليا على تعزيز الحكامة بين أصحاب المصلحة المتعددين. و تضطلع بدور قيادي في القطاع الخاص. [. . .] في الوقت الراهن، يبدو أن الأمم المتحدة لم تتمكن من توفير التوجيه في حل مشاكل الحكامة العالمية – ربما تفتقر إلى الموارد أو السلطة المناسبة، أو كليهما. و لا يمكن لهيئات الأمم المتحدة، باستثناء مجلس الأمن، أن تتخذ قرارات ملزمة”.

تعلن A/Res/73/254 أن مكتب الاتفاق العالمي للأمم المتحدة يلعب دورا حيويا في «تعزيز قدرة الأمم المتحدة على الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص». و يضيف:

” تقر خطة التنمية المستدامة لعام 2030 بأن تنفيذ التنمية المستدامة، سيتوقف على المشاركة النشيطة لكل من القطاعين العام و الخاص [.]”

التنمية المستدامة من أهم أهداف الحكامة العالمية.
التنمية المستدامة من أهم أهداف الحكامة العالمية.

انصهار الدول في نموذج واحد

في حين أن المدعين العامين في 19 ولاية قد ينتقدون شركة بلاك روك لاغتصابها السلطة السياسية لأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي. فإن شركة بلاك روك ببساطة تمارس سلطتها باعتبارها “شريكا لحكومة الولايات المتحدة في القطاعين العام و الخاص”. هذه هي طبيعة الحكامة العالمية. نظرًا لأن هذا النظام قد تم إنشاؤه على مدار الثمانين عامًا الماضية ، فقد فات الأوان بعض الشيء حتى يتمكن المدعين العامين للولايات 19 من تقديم شكوى بشأنه الآن. ماذا كانوا يفعلون طوال العقود الثمانية الماضية؟

يفتقر «الشركاء» الحكوميون للشراكة العالمية بين القطاعين العام و الخاص إلى «السلطة». لأن الأمم المتحدة تم إنشاؤها، بشكل عام من قبل Rockefellers، كشراكة بين القطاعين العام و الخاص. و الهيكل الحكمي الدولي هو شريك الشبكة دون الحكومية، لأصحاب المصلحة من القطاع الخاص. من حيث الموارد، فإن قوة «الشركاء» في القطاع الخاص تقزم قوة نظرائهم الحكوميين.

إقطاعيات الشركات ليست مقيدة بالحدود الوطنية. تمتلك BlackRock وحدها حاليًا 8.5 تريليون دولار من الأصول الخاضعة للتدبير. ما يقرب خمسة أضعاف إجمالي الناتج المحلي لروسيا العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، و أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة.

ما يسمى بالدول ذات السيادة ليست ذات سيادة على بنوكها المركزية. ولا هي «ذات سيادة» على المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي أو بنك التنمية الجديد (NDB) أو البنك الدولي أو بنك التسويات الدولية. إن الفكرة القائلة بأن أي دولة قومية أو منظمة حكومية دولية قادرة على السيطرة على الشبكة العالمية لرأس المال الخاص. هي فكرة هزلية.

في مؤتمر تغير المناخ  COP26 في غلاسكو في عام 2021. أعد الملك تشارلز الثالث – الأمير تشارلز آنذاك – المؤتمر لتأييد الإعلان القادم لتحالف غلاسكو المالي لصافي الصفر (GFANZ). و بيّن بوضوح من هو المسؤول، و تماشياً مع أهداف الأمم المتحدة، أوضح دور الحكومات الوطنية باعتبارها «شركاء تمكين»:

إعادة هيكلة العالم

” إن حجم و نطاق التهديد الذي نواجهه يستدعي حلا عالميا على مستوى الأنظمة. يقوم على تحويل اقتصادنا الحالي القائم على الوقود الأحفوري بشكل جذري. [. . .] لذا أيها السيدات و السادة، مناشدتي اليوم. أن تجتمع البلدان معًا لخلق البيئة التي تمكن كل قطاع من قطاعات الصناعة من اتخاذ الإجراء المطلوب. نحن نعلم أن هذا سيتطلب تريليونات و ليس مليارات الدولارات. [. . .] نحن بحاجة إلى حملة عسكرية لحشد قوة القطاع الخاص العالمي. مع وجود تريليونات تحت تصرفه تتجاوز بكثير الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و بأكبر قدر من الاحترام، بما يتجاوز حتى حكومات قادة العالم. وهو يوفر الاحتمال الحقيقي الوحيد لتحقيق انتقال اقتصادي أساسي”.

ما لم يكن “بوتين” و “شي جين بينغ” يعتزمان إعادة هيكلة الأمم المتحدة بالكامل. بما في ذلك جميع مؤسساتها و وكالاتها المتخصصة، فإن هدفهما المتمثل. في حماية «الهيكل الدولي الذي تقوده الأمم المتحدة» يبدو أنه ليس أكثر. من محاولة لترسيخ مكانتهما كقادة اسميين للشراكة العالمية بين القطاعين العام و الخاص. و كما أشارت إدارة الشؤون الاقتصادية و الاجتماعية التابعة للأمم المتحدة. من خلال الشراكة العالمية بين القطاعين العام و الخاص، فإن هذه المطالبة بالسلطة السياسية محدودة للغاية. تهيمن الشركات العالمية و تعمل حاليًا على تعزيز قوتها العالمية من خلال «حكامة أصحاب المصلحة المتعددين».

نظام عالمي جديد

سواء كان أحادي القطب أو متعدد الأقطاب. فإن ما يسمى بـ «النظام العالمي» هو نظام الحكامة العالمية بقيادة القطاع الخاص – الأوليغارشيين. وافقت الدول القومية، بما في ذلك روسيا و الصين، بالفعل على اتباع الأولويات العالمية المحددة على مستوى الحكامة العالمية. السؤال ليس أي نموذج من «النظام العالمي» بين القطاعين العام و الخاص يجب أن نقبله. بل لماذا نقبل أي «نظام عالمي» من هذا القبيل على الإطلاق.

هذا، إذن، هو السياق الذي يمكننا من خلاله استكشاف المزايا المزعومة لـ «نظام عالمي متعدد الأقطاب» بقيادة الصين و روسيا، و الهند بشكل متزايد. هل هي محاولة، كما ادعى البعض، لتنشيط الأمم المتحدة و إنشاء نظام أكثر عدلا و إنصافا للحكامة العالمية ؟ أم أنها فقط المرحلة التالية في بناء ما يشير إليه الكثيرون باسم «النظام العالمي الجديد»؟

تأليف إيان دافيس، ترجمة منير علام.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *